رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

«البِكرية».. ريم خيري شلبي تكتب «حكايات عم خيري»

ريم خيري شلبي
ريم خيري شلبي

عندما أفكر بيني وبين نفسي ما هي الأشياء التي تعلمتها من أبي، أجدني محتارة هل أنا تعلمت منه بالفعل، أم أنني متأثرة به إلى حد التشرب، ولكني سرعان ما أوقف هذا الصراع، لأنه لا يوجد فرق كبير بين الحالتين، الأهم من ذلك هو أن ما أفعله نابع من داخل قناعتي وليس خوفًا من أي شخص، خاصة أنني أدركت مع مرور الزمن أنه ما من شيء اختلفت فيه مع أبي إلا وكان هو على حق، لذلك أصبحت أستدعيه في داخلي عندما أحتار في أمر ما، وأحتاج إلى مشورته. 

أنا من النوع الكاره جدا للانتظار، وخاصة عندما كنت أطلب شيئًا من أبي كانت حياتي تتوقف تقريبًا على انتظار تنفيذ أبي لطلبي، حتى أن النوم كان يهجر عيني تماما كنت أسهر في انتظاره طوال الليل ولو أني كنت أتظاهر بالنوم أمام أمي، خاصة أن طلباتي كانت دائما متواضعة لذلك لم أضع أبدًا أي احتمال لعدم تنفيذها، وعندما أسمع صوت المفتاح وهو يعبث في باب الشقة أشعر أن حلمي أوشك على التحقيق، لولا أن هذا الأمل ينطفئ مع دخول أبي إلى حجرته دون أن يأتي إلى سريري وإعطائي ما طلبته منه، كنت أشعر وقتها بظلم بالغ وأتمنى وقتها أن أكبر سريعًا حتى لا أحتاج إلى أن أطلب شيئًا من أحد، ربما كانت أحاسيسي مبالغًا فيها في ذلك الوقت، ولكن الأغرب من أحاسيسي هو أن أبي في ذلك الوقت كان يعلم ما أشعر به تمامًا، وربما كان يراقبني من بعيد ويتعمد تجاهلي، خاصة عندما أتظاهر بأنني أفقت فجأة لدخول الحمام والتلكؤ أمام حجرته، وإلقاء السلام عليه وأنا أنتظر أن يدعوني للذهاب إليه ربما يكون قد أحضر ما طلبته منه، ولكنه نسى أن يعطيني إياه. 

إلى أن تعودت على أن أطلب من أبي الشيء، وأنسى أمره تماما بعد أن تأكدت أنه لا ينسى ولا يتجاهل، ولكنه يعلمني الصبر، وأنه طالما أنه لم يستجب لطلبي على الفور إذا هو يعلم أنني أقدر على العيش بدونه، وأن هناك أساسيات وهناك رفاهيات، ويجب التعود على العيش في حدود ما تسمح به الظروف وليس ما تهواه النفس، وكان يحب أن يشعرني دائما بقيمة الأشياء التي أحصل عليها، وكلما كان هناك صعوبة في الحصول عليها سوف يكون هناك تمسك بها أكثر والحفاظ عليها، والجميل في الأمر أنني كنت أنسى ما طلبته ويمر وقت كاف لانشغالي بأشياء أخرى، وربما أبتكر بدائل عن الطلب الذي طلبته منه وعندما أذهب لأطلب منه شيئًا آخر يفاجئني بطلبي الأول ويبتسم ويقول ودا أديه لمين، فرحتي وقتها كانت لا تقدر بأي ثمن ليست فقط لأنني حصلت على ما أتمنى، ولكن أيضا لأن أبي لم ينس طلبي وظل يفكر فيه. 

الأهم من ذلك طريقته في تقديم الأشياء، عمري مثلا ما افتكر إني طلبت منه فلوس وفتح محفظته وطلعها، كان يقول لي حاضر ويسكت بالطبع أنا كمان باسكت لدرجة إني ممكن أدخل وأنام وأفتكر أنه نسي والفلوس هي أكتر حاجة مكنتش أحب أطلبها من بابا، مش عارفة ليه كانت كرامتي بتوجعني قوي وأنا بأطلب الفلوس، المهم كنت أصحى من النوم ألاقي الفلوس ودايما معاها مكافأة، مثلا يحطهالي في محفظة جديدة تحفة، أو يشبكها في قلم ظريف، أو يلفهالي في ورقة ويكتبلي عليها حبيبتي ريم، يمكن كان بيقوللي شكرا على عدم الإلحاح، مش عارفة. 

من أكثر المواضيع حساسية بالنسبة لي هو موضوع طلب الفلوس من أبي، كنت أشفق عليه جدا وأشعر أنه يتحمل من أجلنا الكثير لذلك كنت أطلبها وأنا في قمة الخجل وهو قد أدرك ذلك مع الوقت، فأصبح يعرف ما أحتاج إليه دون أن أطلبه، ودون أن يضعني في هذا الحرج، لذلك صممت على العمل فور إنهاء دراستي حتى يكون لي دخلي الخاص وتكون علاقتي بأبي لا يشوبها شائبة ولو أنني ظللت لا أستغني عنه، وعن احتياجي له، ربما إلى هذه اللحظة.

ولأني كنت مغفلة في وقت ما وكنت أظن أنه بعملي أو زواجي سوف أشعر بالاستقلال ولن أحتاج إلى ماديات من أبي، لكنني فوجئت أن أي شيء له قيمة في حياتي من أبي وأننا ظللنا نقاسمه رزقه حتى آخر يوم في عمره بكامل إرادته، لقد كان ينتظر أي مناسبة حتى ولو كانت موسم عاشوراء حتى يجعلها حجة لتوزيع النقود عليّ أنا وإخوتي، كان يعلم جيدًا أن الحياة شاقة وأننا لا يمكن نستغني عن نفحاته التي كانت بالنسبة لنا هي قبلة الحياة. 

لم أر في حياتي امرأة تعرف تفاصيل زوجها مثل أمي، كانت تحفظ أنفاسه وعدد دقات قلبه، ومعنى كل دقة، متى يحتاج إلى الأكل، ومتى يحتاج إلى الشرب، ومتى يحتاج إلى الحمام، وإذا كان يشرع في كتابة مقال أو رواية، وإذا كان ما يقرؤه يعجبه أم لا، وإذا أخبرها أنه لا يملك نقودا الآن هل هو صادق أم كاذب. هل أتى كل هذا من فراغ أو بالساهل، أبدًا إنها بذلت فيه عمرها وصحتها وأعصابها.
 
علاقة أبي وأمي جعلتني أحترم تعاليم ديننا وأحترم السبب الذي جعل الله يشرع لنا الطلاق لثلاث مرات، لأنه يعرف جيدا أنه إذا وصل رجل وامرأة للطلقة الثالثة، إذن هما لا يستحقان فرصا أكثر من هذه، رسميًا أبي وأمي لم يذهبا للمأذون إلا مرة واحدة، يوم زواجهما، ولكنهما اختلفا مئات المرات، ولم يصل خلافهما أبدا لوضع كلمة النهاية، لا منه ولا منها، هو كان يعلم أنه عصبي المزاج ومتقلب الأحوال، فكان لا يجادل في ذلك وهي كانت تعرف أنها قبلته على ذلك فلم تلم أحدًا على اختيارها، حتى وصلت لحد العشق. 

كبر أبي وتغيرت ملامحه وتفاصيل جسمه، وظلت أمي تتعزل به في كل لحظة، حتى أنها كانت تجعلني أنظر إليه بتمعن أكثر حتى أرى هذا الجمال الذي تراه، وهو أيضا ما كان يراها حتى يرى فيها الجمال كله، حتى وهي مريضة وتتحرك بصعوبة. 

أي صعوبة التي كانت تتحرك بها!، لقد كانت تتحرك أمامه كالرهوان، وكانت تنظر إليه في دلال وتقول له، (إنت فاكرني عجزت ولا إيه)، وينظر إليها هو الآخر ويقول لها (عجزت إزاي يا قمر هو أنت هتعجزي أبدا).

علاقتهم كان مدرسة وهو كان راجل مفيش في حنيته، في يوم وإحنا قاعدين بنتكلم عن إن الحكومة بتقول إن المرتبات هتزيد نظرت إلينا وقالت: كلكم موظفون وعندكم مرتبات وأنا لأ، تاني يوم نزل بدري قالها عندي ميعاد، ورجع لقيته عاملها شهادات في البنك ليها عائد شهري، قالها أديكي بقيتي موظفة وكل شهر تروحي تقبضي مرتبك، كان مصدرا للأمان في حياته وبعد وفاته. 

المصدر: «حكايات عم خيري»

Advertisements
الجريدة الرسمية