رئيس التحرير
عصام كامل

علي حزين يكتب: مقام سيدنا الولي (1).. قصة قصيرة

على حزين
على حزين

يفتح الكادر على مشهد ليلي.. زحام في كل مكان.. الناس تقبل، تجيء من كل حدب وصوب.. الأصوات تتداخل، تتعالى، ومكبرات الصوت المرتفع تملأ المكان.. الزحام على أشده.. الأنوار معلقة في كل مكان.. تكاد تخطف بالأبصار.. مسرح بدائي.. مصنوع من خشب ملون.. يقف على بابه رجل.. شبه عارٍ مفتول العضلات.. ينادي بميكرفون في يده.. وهو يلتفت يمينًا ويسارًا.. ويشير باليد الأخرى للزوار، ليدنيهم... 
ــ ياللا.. الأراجوز.. ياللا قرب، قررررب.. تعالَ اتفرج.. تعالَ شوف الفتاة الكهربائية.. والراقصة اللوذعية، فاتنة الفاتنات.. وجميلة الجميلات.. والساحر الشرير.. والأكروبات الجميلة، المثيرة.. ياللا، ياللا.. قرب، قرب، قرررب....
يقترب أناس، ويبتعد آخرون.. وكشافات الضوء تبدد ظلام الليل.. وتوقظ عيون المدينة الهادئة.. والناس مزدحمون كيوم الحشر.. الباعة الجائلون منتشرون في كل مكان.. هذا يبيع صورًا للفنانين، والمشاهير، وكبار الساسة.. وهذا يبيع مناديل، وسجائر وأشياء أخرى.. وهذا يحمل بين يديه طبقًا به ترمس.. وهذا يحمل فوق رأسه "تابلون" مليئا بالساندويتشات.. وهذا.. وهذا... وهذا.. وكل منهم ينادي على سلعته بطريقته الخاصة.. ومنهم من يبتلعه الزحام.. ومنهم من هو فارش على الأرض.. أو بعربة يد.. أو قفص من الجريد وضعه فوق الأرض.. ومكبرات الصوت صداها يرج المكان رجًّا.. ويقلق المدينة النائمة.. ليوقظها، ويلقيها في ليل صاخب.. والدكاكين على الجانبين مفتحة الأبواب.. ومليئة بالسلع والبضائع والألعاب.. طرابيش.. مزامير.. بالون.. حمص.. فول سوداني، وحلاوة أشكالًا وألوانًا. 
أشاهد أحدهم يقف أمام دكانه.. يصفق بيديه.. يردد، وهو يتطوح: 
- ابعت زوارك يا بطل.... اسعى اسعى وصل على النبي... 
أصوات المنشدين تنبعث من داخل السرادقات المنتشرة هنا وهناك.. بطريقة عشوائية، لتزيد المكان رونقا وجمالًا.. وتنطلق لتجوب الفضاء.. وتخترق الأجواء.. والمولد في ليلته الأخيرة.. 
وكنت أنظر حولي بإعجاب.. مأخوذا بالألوان المعلقة، المرتعشة، في كل مكان.. وكأنها ترقص على إيقاع الطبلة، والموسيقى.. والسرادقات التي بها الخدمات.. موزعة في المكان بطريقة عشوائية.. وأدهشني هذا الرجل العاري إلا من خرقة بالية تستر عورته.. وهو يقف وسط جموع من الناس.. وبيده شعلة من نار.. يضعها لأعلى.. ينفخ فيها بفمه المليء بالغاز.. فتخرج من فمه نار.. على هيئة دوائر، ومستطيلات.. والناس حوله يصفقون.. يتصايحون.. ويهتفون.. وهو يحثهم على الهتاف أكثر، والتصفيق الحار، وإخراج بعض من النقود له، وهو يقول:
ــ "صلوا على النبي.. صلوا على الحبيب"..
وهنا يظهر أبي متوسطًا الكادر.. ممسكًا بأيدينا، يوصينا أنا وإخوتي.. وأمي تحمل فوق رأسها مشنة كبيرة.. فيها الطعام، وأغراضًا أخرى نحتاج إليها في الزيارة.. وأختي تسير بجوارها.. وقد أمسكت بأولاد أخي الصغار.. أتنبه لصوت أبي الجهوري.. 
ــ "لا تتركوني.. أيديكم في أيدي بعض.. حتى لا تتوهوا وسط الزحام.. ولا تذهبوا بعيدًا عن عيني.. ولا تخذوا شيئا من أحد.. سامعين ؟!".
وكنت أسير معه.. وأنا أشعر بالجوع يعصر بطني.. والتعب يفت في قواي.. لكني كنت مغتبطًا، وسعيدا جدا بكل ما يدور حولي.. وما أراه.. لأنها الليلة الأخيرة.. في مولد سيدنا الولي.. وهذه هي المرة الأولى التي أتي فيها إلى هذا المكان.. حيث الليلة الكبيرة.. وأزور مع والدي، أولياء الله الصالحين.. أسمع من يصيح بجواري. 
ــ نظرة ومدد.. صلوا على النبي.. 
ــ حي مدد ، حيي مدد.. 
ــ الله الله الله.. صلوا على النبي 
أسمع أبي ، هو وأمي يرددان معا.. 
ــ اللهم صل وسلم وبارك عليه.. عليه أفضل الصلاة والسلام 
ــ مدد يا رب مدد.. 
مدافع البمب المنتشرة هنا وهناك.. تنبعث منها رائحة البارود.. أصوات الفرقعات.. عيني تذهب على صورة معلقة فوق "بورتريه" لراقصة مبتذلة.. مقذذة.. والرجل الساحر بجوارها.. كانت معلقة على جدار المسرح الخشبي.. ينبعج من الداخل صوت.. يصاحبه لحن رديء.. وأصوات تتعالى.. وصياح هنا وهناك.. وهتاف ، وتصفيق ، والراقصة تغني.. وتردد في حماس: 
ــ الله الهة يا بدويك باليسر.. أختي ذوبة من عيلة.. عيلة أصيلة وجميلة.. الله الله يا بدويك باليسر.. 
نتجاور المسرح الخشبي " التياترو" بقليل.. تقابلنا حلقات الذكر.. مليئة بالمداحين.. والمنشدين.. والناس فيها واقفون صفوفا، صفوفا.. يتمايلون مع اللحن.. وصوت المنشد.. ومنهم من يترك الصف.. ليقفز.. وهو يرغي.. وقد وقع على الأرض.. في حالة هياج.. وتشنج أشبه بالمُصرع.. 
ـــ أأفففوووه أأأففففوووه... أأأففففوووه...
يقترب منه حفنة من الرجال.. في محاولة منهم لإيقافه.. أو إسكاته.. أو إفاقته.. لا أدري ماذا حدث له.. أو ماذا به.. يأتيني صوت أحدهم.. وهو ينفث في أذنه. 
ــ واحد.. أحد.. ماداااااد ماداااااد مادااااد.. يا سيدنا الحسين المادااااد.. 
أجدني أسأل أبي الذي وقف لينظر.. وكأن المشهد راق له، واستهواه.. وربما كان يبحث بنظره.. على أحد يعرفه بداخل الخيمة.. أو هذه الحضرة 
ــ ايه ده يا بابا.. ماله الراجل ده.. وليه بيعمل كده.. وإيه اللي حصل له
جلس أبي القرفصاء أمامي.. يستقبلني أبي بوجهه.. وقد وضع يديه السمراء على وجنتيّ، وهو يبتسم في وجهي:
ــ دا راجل مبروك يا ولدي.. ومكاشف.. أكيد يا ولدي ما ستحملش.
ــــ ماذا تعني يا أبي بكلامك هذا؟!
ــ أنت صغير يا ولدي.. وما تعرفش حاجة لسه.. ولما تكبر هتعرف..
صوت أحد المنشدين من بعيد يخترق الهواء، والأجواء ، ليأتيني واضحا جليًا.. فأصفق معه.. وأهز رأسي.. وأنا يدي في يد أبي. 
ــ يا فاطمة يا فاطمة.. يا بنت نبينا.. قومي افتحي لنا الباب يا فاطمة.. دا أبوكِ داعينا...
نتجاوز الحضرة.. بقليل.. يستقبلنا مقام سيدنا الولي.. ندخل.. نقف عند المقام.. كل واحد بجوار أخيه.. حتى لا نبعد عن بعض.. كما أوصانا أبي وما زالت صورة المراجيح.. التي كانت بجوار المسرح الخشبي عالقة في رأسي.. و"التياترو" وصوت الراقصة.. حاضرة في رأسي بقوة.. أسمع صرخات غير طبيعية.. وأشاهد أناسا يبكون.. ونساء تزغرد.. وأنا أكاد أختنق.. من شدة الزحام.. والسعي حول المقام.. أسمع أحد الناس يصرخ.. 
ــ لطفك يا رب.. 
"ما هذا الزحام الشديد الخانق؟ رأسي تكاد تنفجر من الأصوات المرتفعة.. وسمعي لا أكاد أسمع منه إلا تشويش.. وعيناي محمرة من السهر، والإجهاد". 
امرأة شابة.. جميلة نوعا ما.. في العقد الثالث من عمرها.. تمسك بالسياج الحديدي.. الذي يحيط بالضريح.. أسمعها وهي تقول: 
ــ أديني جيت لك زي ما قلت.. آه يا سيدي.. حقق لي اللي قلت لك عليه يا بطل. وحيات سيدك النبي. 
أشاهد بعض الناس تطوف حول الضريح.. والبعض يطلق أصواتًا غريبة.. همهمات.. وصرخات.. وكلمات غير مفهومة.. على وجهها ملامح غريبة.. تشبه الرضا بما يصنع وخليط من الخوف مع الارتياح.. ممزوج ببعض القلق.. وكل واحد مشغول بنفسه.. يصلني صوتها واضحًا أكثر في هذه المرة.  
ــ ارضَ عني يا عم الشيخ.. وحيات مقام سيدك النبي... وتب عليّ واهدني. 
أرقب أحد رجال الشرطة.. ينظم عملية الدخول.. والخروج من الباب.. وآخر ممسكًا بعصاه.. يدفع بها.. وهو يقول للناس الواقفين المتكدسين أمام الضريح: 
ــ اسع وصل على النبي.. اسع وصل على النبي..
أردت أن أخبر أبي، وألفت انتباهه، لما أرى.. جذبته بقوة من ثيابه.. نظر إلي أبي وهو يبتسم ، ابتسامة غضب.. تمنيت أن أفلت من يده لأجري، وأخبر الشرطي الواقف أمام الباب.. ولكني خفت خوفا شديدا.. وأبي أيضا حذرنا من الابتعاد عنه، أنظر من خلال السياج الحديدي.. محيطًا بالمقام، الذي تغطي بكساء سندس أخضر جديد من حرير.. وقد كورت فوق رأسه عمامة كبيرة، بها شرطان حمراوان، وأخرى خضراء، وبيضاء.. أرى أمي ترفع يديها وتدعو بصوت مسموع.. وقد وضعت يدها على السياج.. تارة تمسح أمي على وجهي.. وأخرى على وجه أخي، وهي تقول: 
ــ يا سيدي تخليلي جوزي وتهدي لي ولادي وتبارك لي في جوزي وعيالي وتهدي هم لي وحيات حبيبك النبي..
أما أختي فهي فتاة مبروكة.. تصنع مثل ما تصنع أمي.. مع أبناء أخي الثمانية.. وأخي الكبير واقف بجوار أبي.. وهو يتلفت يمنة ويسرة.. كما لو كان منتظرًا أحدًا، أو أنه يبحث عن شيء ما في المكان.. أما أنا فكنت واقفًا.. أتأمل في اندهاش كل ما يدور من حولي في المكان.. وقدماي لا تكاد تحملني.. والجوع والعطش يفتكان بي.. أعصر بطني بيدي.. أتذكر المرأة.. الشابة.. ألتفت حيث هي واقفة.. ألمحها وهي تخرج من المكان.
"المكان غريب جدًا.. زحام شديد لدرجة الاختناق.. وراحة مختلطة "كوكتيل" من الروائح.. من العطور، والبخور.. والعرق.. وضريح محاط بسياج حديد.. والطواف حوله لا ينقطع.. وأصوات تتعالى بالدعاء تارة.. وأخرى بالقرآن، والذكر، والصلاة على النبي.. وأشكال غريبة ، وعجيبة.. جاءت من كل بلاد الله.. وقبلات تتعالى أصواتها ، وهي تنطبع على المقصورة.. وبخور.. وأنوار.. ونجف وأشخاص يجلسون في كل زوايا المكان.. وبأيديهم المصاحف يقرؤون القرآن بصوت مرتفع " يس.. طه.. كهيعيص".. فجأة ، أحد الذين يطوفون خلفي يصرخ يتشنج.. وكأن جنًّا قد تلبسه.. أو به صرع من جنون.. أسمعه يقول :
ـــ بوووبووه.. بوووبووه.. 
وأسمع آخر يقول : 
ــ مدد يا أبو الفرج مداااااااد..
وثالث يصفق وهو يقول :
ـــ حيّ... حيّ...صلوا على النبي.. 
فيرد عليه صوت آخر من بعيد: 
ــ هون علينا يا رب.. ارحمنا يا رب.. ابعت زوارك يا بطل...
أرقب أمي تلملم ثيابها.. تجلس القرفصاء تمد يدها.. لتأخذ قبضة من تحت المقام.. حصاة صغيرة من الأرض، من أجل البركة ــ هكذا قالت ليَّ ــ تصرها في منديلها أما أبي فمنشغل بقراءة الفاتحة.. والدعاء، والتسبيح وأختي تفعل مثل أمي تمامًا.. وإخوتي يقتدون بأبي.. أما أنا فكنت واقفًا.. لا أدري ماذا أصنع.. أريد أن أبكي.. أريد أن أصرخ في أبي:
ــ " أرجوك أخرجني من هذا المكان.. أرجوك أخرجني.. أكاد أختنق.. إني جائع.. وعطشان، ومتعب أيضا.. ارحموني، وأخرجوني من هنا بسرعة.. إني أريد أن أشتري بعض الصور للعندليب الأسمر.. "عبد الحليم حافظ".. وأشتري أيضا كتاب "كيف تتعلم الكاراتيه بدون معلم".. وأيضا كتاب "كليلة ودمنة" للفيلسوف "بيدبا"، وكتاب "ألف ليلة وليلة".. وكتاب الأغاني لعبد الحليم وأم كلثوم.. نفسي أركب المراجيح.. المراجيح المنصوبة بجوار المسرح.. فهي تشدني إليها بكل قوة.. تمنيت لو ركبت المراجيح.. فأنا أحبها جدا، برغم سقوطي ذات مرة من فوقها.. وتمنيت لو كان أبي قد أدخلني المسرح.

Advertisements
الجريدة الرسمية