رئيس التحرير
عصام كامل

باسم الجنوبي يكتب: الخيال الذي بهدل علاقاتنا الاجتماعية

باسم الجنوبي
باسم الجنوبي

يهتم الباحثون في الاجتماع المصري بأن يتلقوا تقارير ونشرات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء حول حالة الاجتماع المصري قبل نهاية كل عام، وقبل نهاية العام 2018 جاءت النتائج بها إشارات في غاية الخطورة لكل الاجتماع المصري جملة وتفصيلا، خاصة المتعلقة بنسبة الطلاق الرسمي في مصر التي تجاوزت 40%، بمعدل حالة طلاق واحدة تحدث كل 4 دقائق، ومجمل حالات باليوم الواحد تتجاوز الـ250 حالة، لتجعل نسبة الطلاق في مصر هي الأعلى عربيا!


أين ذهبت دباديب عيد الحب
هذه النسب الرسمية المرتفعة للطلاق مع خطورتها تشير إلى نسبة أكبر من حالات الطلاق الفعلي غير الرسمي، وربما غير المعلن يجعلنا نتساءل، أين ذهبت دباديب الحب الحمراء التي نراها في أعياد الحب بمصر، أين ذهبت الورود وأين تأثير الأغاني العاطفية وصور القهوة وبوستات الحب عير مواقع التواصل الاجتماعي ؟!

الحقيقة أن كل مراسم الاحتفالات العاطفية والمبالغة فيها بالشكل الذي نراه ربما كانت إشارات على الجوع العاطفي الذي يعاني منه المجتمع، وعدم قدرة العلاقات الحالية على إشباعه، وزاد هذه الجوع حدة أن أصبح لكل فرد خياله الخاص في شكل العلاقات المشبعة له، هذا الخيال الشخصي جعل الخرائط النفسية والاجتماعية للعلاقات لا دليل واضح لها، لأنها تتسم بالفردية الشديدة التي لا يشبهها غيرها من هنا تبهدلت العلاقات، بمعنى أنها أُهملت وفسدت وانقطعت.

الخيال في العلاقات وتفاصيلها العاطفية والجنسية والخيال في فكرة الحقوق والواجبات وحدود الخصوصية وحدود الإشباع والتداخل، اتساع هذا الخيال وعلو سقفه جعل الفرد يتمحور كثيرا حول ذاته، ليجعل من الطرف الثاني هو المقصر دائمًا وهو من عليه أن يقوم بالفهم والتنازل والانسياق، ما يجعل العلاقات في يد طرف واحد مستفيد وطرف آخر مجرد متنازل، من هنا تتحول العلاقات إلى عبء غير محتمل، فإما فراق يتحمل الجميع خسائره وإما بقاء في حياة ليست حياة.

نحو علاقات إنسانية صحيحة
بحسب كتاب "صحة العلاقات" لـ أوسم وصفي، يرى الكاتب أن التقبل والحب غير المشروط هو الطريق لعلاقات تتسم بالصحة والإنسانية، بعد قراءة الكتاب ومناقشته قبل أيام مع الزملاء من مستشاري التربية والعلاقات الأسرية، اتضح أن الحب غير المشروط ليس فقط طريق صحيح، لكنه الطريق الوحيد لتكوين العلاقات الصحيحة، لأنه يهذب الخيال إنسانيًا ويرغمه على القبول غير المشروط احتراما لإنسانية الطرف الثاني، واحتراما لمحدودية للطرف الأول بحكم أنه الطرف الثاني بالنسبة للآخر، وبحكم أن الطرفين بشر ولديهم عيوب ومحدودية للمميزات وعليهم أن يتقبول بعضهم بلا شروط.

هذا الحب والتقبل غير المشروط هو وحده الذي يستتبع احترام الاختلاف، احترام التفرد، عدم التملك، الصراحة، عدم التحميل أو تحمل مالا طاقة به، احترام الخطأ، العتاب، الغفران، والحقيقة أن اكتساب هذه المهارات الإنسانية المهمة جدا تحتاج إلى تدريب ليس سهلا أبدا لكن جائزة هذا التدريب تستحق، وهي علاقات صحيحة تُشعرنا بإنسانيتنا مع شركائنا.

وجوب معالجة الماضي
من المعروف أن علاقاتنا الاجتماعية وحتى عواطفنا تبدأ وتتكون من الأسرة، وحتى إذا انتهت فترة حياتنا مع الأسرة المنشأ، فإن ارتباطنا النفسي بها باق معنا أبدا، ولا نبالغ أن عدم قدرتنا على الحب غير المشروط أصلها النشأة في أسر لم تقدر هذا النوع من العلاقات، فالأسر التي يسود فيها النقد المستمر وعدم الوفاء بالوعود وعدم التقدير وعدم التحكم في المشاعر، الإفراط في الغضب والعنف، الشماتة بالفشل، عدم التشجيع على النجاح، كتم الأسرار، أسر لا يشعر فيها الأفراد بالأمان مما يجعلهم يبحثون عنه خارج أسرهم بنفس النفسيات التي كانوا يتعاملون بها داخل أسرهم، يبحثون عنه بأقنعة التصنع والتكلف والحماية الزائدة للمشاعر وبخيال يعلو سقفه عن واقع هذه الأسر المسممة بشكل مضاد تماما وغير مستطاع إنسانيا، مما يجعل من معالجة المشكلات النفسية للماضي أمر حتمي لتكوين علاقات حاضرة، صحيحة، مستمرة بعقول لا تشطح بخيالها وتُقدر الاختلاف في الواقع وتستمتع به، تُتقن التواصل الحقيقي والتعبير عن الضعف بلا تكلف ولا تمثيل، مستمرة بقلوب تُجيد الاعتذار والامتنان وما بينهما تُحسن الظن.
الجريدة الرسمية