رئيس التحرير
عصام كامل

علي السيد حزين يكتب: أدراج الريح

صورة ارشيفيه
صورة ارشيفيه

ظل واقفًا منتظر الأوامر.. عدّل من هندامه.. رفع رأسه.. وانتبه.. من جهة اليمين.. كان الصوت جهوريًّا.. كموج البحر الهادر.. لم يلتفت إليه..

ــ ارقد..!!
لم يفكر.. نسي كل شيء.. إلا كلام المُعلم.. وهو يشرح له خطورة الموقف الذي هو واقف فيه.. دارت الدنيا برأسه.. نسي حبيبته.. وأمه.. وأبيه.. والناس أجمعين.. في تلك اللحظة الرهيبة.. فالموقف صعب.. ولا يسمح بالتفكير.. كان يجب عليه أن يكون يقظًا.. منتبهًا وإلا سيكون في خبر كان.. ما زال الصوت يدوي.. في محيط أذنيه.. وهو ينظر إليها.. وهي راقدة أمامه في سكون رهيب.. وهي مستسلمة تمامًا..
ــ الغلطة بفورة يا حلو...!!
نظر إليها، وهي راقدة أمامه.. فوق "البطانية".. تثيره.. تغريه.. لم يُطِل إليها النظر.. رفع رأسه للسماء.. تمتم بكلماتٍ غير واضحةٍ.. وفي نفسه خيفة منها.. حدثته نفسه بأشياء كثيرة جدًا.. رجع للوراء.. بخطوات مضطربة.. كاد أن يولّي.. همَّ بالفرار.. لكن الصوت الذي يأمره من جهة اليمين ينهره بشدة..
ــ يا غبي ارقد بجوارها....؟!!
اهتز كنخلة في مهب الريح.. وهو يهوي عليها.. رقد بجوارها لم يلمسها غضّ من بصره برهة.. انتفض كعصفور بلّله المطر.. البارحة أتته أمه. في المنام باكية.. فأخذ يبكي معها.. وهو لا يدري لِمَ البكاء.. وفجأة رأى كأن أباه قد مات.. فزادت حدة بكائه.. كثيرًا ما يأتيه هذا الحلم المفزع الذي طالما أعياه.. البحث عن تفسيره.. في الكتب الصفراء المتآكلة.. كل الذي وصل إليه من علم.. أنه يكره أبويه.. ويحبهما في نفس الوقت.. استيقظ فزعًا قلقًا.. فهو لا يرغب أن يمتد الحلم.. أكثر من هذا.. استعاذ بالله من شره.. تفل عن شماله ثلاثًا.. شعر بالحنين يفتُّ في عظامه.. ويمزق شغف فؤاده.. شوقًا إلى مسقط رأسه.. تذكر أنه لم ينزل بلدته.. منذ ثلاثين يومًا.. شهرًا كاملًا.. نهض قائمًا.. ارتدى حذاءه، وسترته.. نظر في ساعة يده.. كانت الثانية صباحًا.. لم يوقد المصباح.. تلفت حوله.. الكل يغط في سباتٍ عميق.. والشخير ينبعث من فوق الأسِرّة.. ابتسم في نفسه.. كان نفس الصوت يأتيه.. من جهة اليمين.. لم يلتفت إليه.. فالحركة محسوبة عليه.. بطرف عينه الشمال.. نظر إلى من بجواره.. كان منبطحًا مثله.. وهو يضحك عليه.. امسكها بين يديه.. نظر إلى الهدف..استجمع كل قواه، وشحذ همته، وعقله.. ضغط ، مؤخرتها في تجويف كتفه اليسري.. أغلق عينه اليمنى.. كتم نفسه.. مرّر شعاع البصر من "الناشنكاه" الخلفي إلى أعلى سن الدبانة.. ضبط.. أسفل منتصف الهدف.. توقع الانفجار.. رآها تبكي أمامه.. حينها ضعف.. أمام قطرات الندى.. التي تسيل فوق وجنتيها البرجوازية.. ليسقي الورد الصابح.. وهي تضغط على شفتها العنابي.. بصف لُوْلي ناصع.. أخرج بيده منديلًا ورقيًا.. دفعه إليها بحنان.. فرفضت اليد الممدودة بلطف.. متعللة بأن المنديل فراق.. فأردف: "دعيه للذكرى ".. كان مشفقًا ، محبًا ، متيمًا بها..وكان ينجح من أجلها.. طلبها من أبيها ذات يوم.. وكانت صغيرة ، لا تتعدى الستة عشر ربيعا.. لحظتها كانت تتسمع حوارهما من خلف الباب.. حينها تعلل أبوها.. بأنها لم تزل صغيرة.. وبأنه لم يزل في الجامعة..والعمر طويل ممتد.. وحين تخرّج من الجامعة.. وأصبح الناس ينظرون اليه نظرة مختلفة تمامًا عما قبل.. ذهب إلى أبيها ليفي بوعده.. لكن أباها لا سامحه الله رفض.. سبع سنوات كان مخدوعًا في حبه.. دمرته وحطمت أحلامه.. التي بناها في الخيال.. فحبه لها كان أعرج.. وفي آخر لقاء بينهما.. سخرت ، وضحكت منه وعليه.. تنفس نفسًا عميقًا.. ظل صامتًا.. لا يتكلم.. والدم يغلي في عروقه..عندما رآها تقهقه ساخرةً منه.. أغمض عينيه اليمنى.. وضغط عليها بكل قوة.. ثم رماها من يده.. نظر إليها.. وهي فارغة.. تافهة.. لا تساوي شيئًا.. وهو منبطح فوقها.. منتظرًا الأمر.. عندها شعر بارتياح غريب.. تنفس نفسًا عميقًا.. ابتسم في نفسه.. وقد رُسمت على شفتيها ابتسامة رضا عليه.... الصوت..
ــ أمن وانهض.....؟
رفع فمها للفضاء.. ضغط على الزناد.. رفع الساقطة.. نهض يعدل من سترته.. وحزامه المنسلت عن وسطه.. ثم وقف ثابتًا بلا حركة.. منتظرًا الصوت.. يأتيه من جهة اليمين:
ــ لليمين در....
رآها تسير بجواره.. تقلد مشيته.. معيبةً عليه.. وساخرةً منه، ومازحةً.. يبتهج في نفسه.. متمنيًا أن يمسك يدها.. ينظر إليها بطرفٍ خفي.. تضحك تجري أمامه.. وهي تخرج له لسانها.. يمد يده ليمسك بها.. يأتيه الصوت من أمامه يقيده:
ــ " قف"..؟؟!!
يتسمر مكانه.. يسحب يده بسرعة.. يرفعها على جبهته.. بطنها للأرض وظهرها للسماء.. ومن أقرب طريق يرميها مكانها.. بعدما يعد ثلاثًا.. ويثبت كالمسمار فوق الأرض.. منتظرًا النتيجة من صاحب الصوت.. الذي كان يأتيه.. من جهة اليمين.. رفع رأسه معتدًا بنفسه.. مبتسمًا في سعادة بالغة..
ــ واحد..؟
ــ أفندم...؟
ــ صفر يا غبي... ؟!!
نكّس رأسه خجلًا وقد تبخرت.. الابتسامة أدراج الريح.. قعد خلف الصفوف.. وسط رفاقه.. أشعل سيجارة في الخباثة.. شرد قليلًا.. في وجوم.. داعبه الرفاق.. الحائرون.. في أمره.. فقد عودّهم على الفكاهة والمرح.. داعبوه ثانية.. حتى أضحكوه بصوت عالي.. فضحكوا منه، وعليه.. وهو يضحك معهم...!!
Advertisements
الجريدة الرسمية