رئيس التحرير
عصام كامل

الإسلام والتعايش مع الآخر.. المفتي: العالم في أشد الحاجة لتفعيل القيم المشتركة.. النبي وأصحابه طبقوا التعايش السلمي في أَرقى صوره.. ومسئولون عن تأمين مستقبل الأجيال المقبلة

فيتو

قال الدكتور شوقي علام –مفتي الجمهورية- إننا في أشد الحاجة إلى تفعيلِ القِيَمِ الَّتي نَشْتركُ فيها جميعًا لِنُحَوِّلَها إِلى واقعٍ ملموسٍ، خصوصًا بَعْدَما تَفاقمتْ مخاطرُ قُوًى شريرةٍ تُزْكِي نيرانَ الشِّقاقِ والطائفيةِ والتطرفِ والإرهابِ، وتَعْتَدي عَلى كرامتِنا جميعًا.


وأضاف في الكلمة الرئيسية التي ألقاها في مؤتمر "العلاقات الإسلامية الأمريكية" في نيويورك اليوم، أن الله سبحانه وتعالى خَلَقَنا مُتنوِّعينَ مُخْتَلِفينَ في لُغَاتِنَا وَأَلْوَانِنَا، وأَدْيَانِنَا وتَوجُّهاتِنا، يقولُ سبحانَه وتعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119]، ومَنْ يَفْقَهِ الحِكْمةَ الإلهيةَ مِنْ هذ التنوُّعِ يُدْرِكِ التَّكليفَ الإلهيَّ باحترامِ الناسِ جميعًا، الَّذينَ هُمْ خَلْقُه وَمَظْهَرُ إِرادتِه ومشيئتِه، مِصْداقًا لقولِ الرسولِ صلَّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسلَّمَ: «لا يُؤمنُ أَحدُكم حتَّى يحبَّ لأَخيهِ ما يحبُّ لنفسهِ».

وأوضح أن التكليفَ الإلهيَّ في القرآن الكريم يوضِّحُ الغايةَ والهدفَ مِنْ هذا التنوُّعِ فيقولُ سبحانَه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].

وأكد مفتي الجمهورية أن المسلمينَ عَبْرَ كلِّ المراحلِ التاريخيةِ استطاعوا تَفْعِيلَ هذِه الرؤيةِ والرسالةِ بمشاركةِ الحضاراتِ والأُمَمِ بما تحوِيهِ من ثقافاتٍ متنوِّعةٍ وأديانٍ متعدِّدةٍ وأعرافٍ مختلفةٍ، مشاركةً تأصَّلتْ وتأكَّدتْ في قولِه صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّمَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلنَّاسِ كَافَّةً».

قواعد التعايش
وأشار إلى أن الإسلام قدْ أَرْسَى قَواعِدً وأُسُسًا لِلتَّعايُشِ معَ الآخرِ في جميعِ الأحوالِ والأزمانِ والأماكنِ، بحيثُ يُصْبِحُ المسلمونَ في تناسقٍ واندماجٍ معَ العالمِ الَّذي يعيشونَ فيه، وجَعَلَ ذلكَ أصلًا في التعاونِ والتعاملِ، فقالَ تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

وأضاف أن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم وأصحابُه طبقوا التعايشَ السلميَّ في أَرقى صُورِه، تنظيرًا وتطبيقًا، في نماذجِ حياتِهمْ كُلِّها، مُظْهرِينَ عدالةَ الإسلامِ وسماحتَه في التعاملِ معَ المُخالِفِ على كلِّ الأحوالِ.

وقال مفتي الجمهورية إن الإسلام قد دعا إلى ما دَعَتْ إِليه الأديانُ السماويةُ جميعُها؛ أَعْنِي احترامَ الجِوَارِ بكلِّ مُستوياتِه؛ فَجَارٌ فِي السكنِ وآخرُ فِي الوطنِ وآخرُ فِي الجوارِ الإنسانيِّ الأعظمِ، ودَعا إِلى أن يُحْتَرمَ الجِوَارُ كلُّه ويُحْفَظَ حَقُّ كلِّ جارٍ، وأنْ يُوَاجَهَ كُلُّ مَنْ يَعتدِي عَلَى جَارٍ.

وأضاف: "لَقَدْ كانَ أَوَّلَ مَا دَعا إليه نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ إبَّانَ دُخولِه المدينةَ المنورةَ هو تَفعيلُ التعايُشِ السِّلميِّ واحترامُ الجِوَارِ والحِوارِ عمليًّا، وكانتْ رسالتُه الأُولى وَقْتَ دُخولِه المدينةَ المنورةَ بَعْدَ رحلةِ الهجرةِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ»، بَيْنَما كانَ تحذيرُه الشديدُ باستمرارٍ مِنْ إيذاءِ الجارِ، حَدَّ أنَّهُ جرَّدَ مَنْ يُؤذِي جارَه مِن كَمالِ الإيمانِ، فقدَ أَقْسَمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ قائلًا: «واللهِ لا يُؤْمِنُ، واللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ». قيلَ: وَمَنْ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: «الَّذِي لا يأْمَنُ جارُهُ بَوائِقَهُ»."

وتابع قائلًا: "مَا أحوجَ العالمَ لِمِيثاقٍ إرشاديٍّ جامعٍ للتواصُلِ والتَّحَاوُرِ يُبنى عَلى أصولٍ راسخةٍ"، مشددًا على أن التحاور يجب أن يَظَلُّ مُحْتَرِمًا للخصوصياتِ ولا يَسْعَى لِتأجيجِ نِيرانِ العداوةِ والبغضاءِ أَوْ فرضِ الهيمنةِ عَلى الآخَرِ، وأن يقومُ عَلى أساسِ التعدديةِ الدينيةِ والتنوُّعِ الثقافيِّ.

جسور التواصل
وأوضح المفتي أن الحوار يجب ألا ينقلب أبدًا إِلى حديثٍ أُحادِيٍّ لإلحاقِ الهزيمةِ بالمخالفِ، إنَّما يَكونُ محاولةً لِفَهْمِهِ وبناءِ جسورِ التواصُلِ والتَّعاونِ مَعَهُ؛ تنفيذًا لِمُرَادِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فَقَدْ خَلَقَنا سبحانَه وتعالى شُعوبًا وقبائلَ لِيتعرَّف بعضُنا عَلى بعضٍ.

وَإِنَّ سَعْيَنَا هذا حَرِيٌّ بِأَنْ يُقَدِّمَ أُنموذجًا مِنَ الحوارِ نَخرجُ بِه مِنَ الغُرَفِ المغلقةِ لِنبنيَ جسورَ التفاهمِ والتواصلِ بينَ الشعوبِ، ورجاؤنا لا ينقطعُ ألا يظلَّ حبيسَ الجدرانِ، وأنْ يُساعدَ الحوارُ عامَّةَ الناسِ في فَهْمِ الحكمةِ الإلهيةِ مِنَ التنوُّعِ الدينيِّ فَيُواجِهَ دُعاةَ الشرِّ في العالمِ.

وقال مفتي الجمهورية "إنَّه لَيُسْعِدُنِي وَأَنا عَلى رأسِ هذِه المؤسسةِ العظيمةِ العريقةِ؛ "دارِ الإفتاءِ المصريةِ" أنْ أُسهِمَ في هذا الحدَثِ، ممتلئًا فَخَارًا وثِقةً أَنِّي أسيرُ عَلى طريقِ مَن سَبقني مِنْ علماءِ الأزهرِ الشريفِ المُفْتِينَ الَّذينَ وَضَعُوا لَبِنَاتٍ مُتكاملةٍ في سبيلِ تعزيزِ الحوارِ المستمرِّ والتعايُشِ المشتركِ والتواصلِ الحضاريِّ".

ترجمة القيم
وأضاف: "لقدْ حَرَصَتْ دارُ الإفتاءِ المصريةُ عَلى ترجمةِ هذه القِيَمِ، في فَعَالِيَاتِها، وَفَتاوِيها، وبياناتِها، ومُبَادَراتِها، ومؤتمراتِها العالميةِ المختلفةِ".

ولا شكَّ في أنَّ هذِه المبادراتِ والنِّيَّاتِ الطيبةِ هنا وهناكَ لا بدَّ أنْ تَتَّسِعَ لها مناهجُ التعليمِ وتَتبنَّاها كلُّ أُسْرَةٍ، بَلْ يَتبنَّاها المجتمعُ بِأَسْرِهِ بِكُلِّ مؤسساتِه الحكوميةِ والمدنيةِ لِكَيِ تُثْمِرَ الثمرةَ المرجوَّةَ.

وأكد المفتي أن الأمرُ الذي لا ينبغي أنْ يغيبَ عَنِ الأذهانِ أنَّنا مسئولونَ مسئوليةً كاملةً عنْ تأمينِ مُستقبلٍ مُشْرِقٍ بالأملِ لأجيالٍ مقبلةٍ ليسَ لها أيُّ ذَنْبٍ في النزاعاتِ والحروبِ التي شهدتَها البشريةُ في السابقِ.

واختتم مفتي الجمهورية كلمته بالتأكيد على أن مسئوليتُنا أنْ نُهَيِّئَ لهذِه الأجيالِ الجديدةِ الفرصةَ لِبناءِ مستقبلٍ يَنْعَمُ فيهِ الجميعُ بالأمنِ والسلامِ والاستقرارِ.
الجريدة الرسمية