رئيس التحرير
عصام كامل

أبناء «مرضى الجذام» في عزبة الصفيح.. تهميش ونبذ و«مدرسة بلا معلمين»

فيتو

في تمام السادسة صباحًا يبدأ يومها العادي كربة منزل، توقظ طفليها "مريم وخالد" من نومهما استعدادًا للذهاب إلى المدرسة التي تبعد عن المنزل بأمتار قليلة، بوجهها ذو الملامح الدقيقة التي شوهها مرض الجذام، الذي أصابها منذ كانت في العشرين من عمرها، ويَدان ترك المرض أثره فوقهما فاندثر الطرف العلوي من معظمهما.


تهتم "سميحة" بطفليها، تحضر لهم طعام الإفطار والحقيبة والزي المدرسي، قائلة: "خلفتهما على كَبر قبل ما زوجي يموت بخمس سنوات، أنا سني أربعين سنة، لكني قادرة أقرب لسِنهما وأُلبي احتياجاتهما رغم الظروف المعيشية الصعبة اللي تحاصرني".

تعيش الأم سميحة رفقة طفليها مريم 10 سنوات وخالد 9 سنوات، في أحد منازل "عزبة الصفيح" التابعة لمنطقة أبي زعبل بالقليوبية، التي تبعد عن مستعمرة الجذام أمتارًا قليلة، ضمن عشرات العائلات التي تقطن المنطقة التي تضم حارات عدة، في كل واحدة تَغرق عشرات المنازل في صمتها الدائم: "العزبة دي اتبنت من عشرات السنين، ليَسكنها أبناء وأهالي مرضى الجذام، حتى لا يبتعدون عن ذَويهم، وهناك بعض المرضى بعد زَواجهم ينتقلون إليها استعدادًا للإنجاب".

هاجم الجذام سميحة منذ نحو عشرين عامًا وانتقلت بعدها من مسقط رأسها في محافظة الجيزة إلى المستعمرة، وهناك التقت زوجها، وسرعان ما نشأت بينهما قصة حب تكللت بالزواج، بعد انتقالها للمستعمرة بعام واحد، تكسو الحُمرة وجهها كلما ذُكر اسم زوجها وقصة حبهما: "اتعرفنا على بعض في المستعمرة هو أيضا كان مريضًا، تزوجنا ولم تكن هناك فُرصة للإنجاب، كنا فقدنا الأمل لحد ما جت مريم بعد زواجنا بعشر سنوات، هو أصيب بالسرطان منذ خمس سنوات وتُوفي".

مات الزوج والحبيب ولم تمت رائحة المرض من بيت سميحة، علق الجذام في كل ركن من أركان المنزل، لعنتهُ أصابت حياة سميحة الأربعينية، كبر الطفلان وكبرت معهما هموم الحياة، بقيت آثار المرض على وجه وكفي وقدم سميحة، قُوبلت بالرفض والطرد كلما أقدمت على الالتحاق بمهنة تدر ربحًا عليها، بعد أن باتت المعونات التي تَحصل عليها هي وأهالي القرية من المستعمرة لا تكفي المصروفات المدرسية الكثيرة.

تقول: "قبل الدراسة بنحو شهرين نزلت أبحث عن شغل أحصل منه فلوس اشتري لبس وكتب العيال، كتير اترفضت بسبب شكلي حتى عملت في مصنع لإنتاج البلاستيك، لكن لم أفلح فيه بسبب تدمير المرض لأعصابي، وكانت المنتجات بتقع من أيدي مشيت، وأصبحت أعيش على معونات أولاد الحلال وأكل المستعمرة".

خالد ومريم لم يفهما الأمر في البداية، هَالهما تساقط جلد وجه أمهما، وتضاؤل حجم أصابع اليد واختفاء معظمها، لم يعرفا ما هذا المرض الأسود الذي رأيا أنه انتقى أمهما دون غيرها ليأكل من جسدها الحي على مدار السنوات: "الأول ماكنوش عارفين ده إيه، وبيسألوا مالك يا ماما وفهمتهما إيه مرض الجذام وتعايشوا معاه".

تعلق الطفلان بأمهما، ولم تجد محاولات أقاربهما لوالدهما في أخذهما للعيش معهم في صعيد مصر صدى لها: "أنا كل همي أربيهما وأعلمهما وأُنشئهما في بيئة صالحة، مريم متميزة في المدرسة وخالد ناصح وفهمه عالي".

لم يكن خالد ومريم وحدهما من أجبرتهم الظروف على التعايش مع مرض الجذام الذي أصاب الوالد أو الوالدة أو ربما الاثنين معًا، "حمادة" ابن التسع سنوات أحد سكان عزبة الصفيح بدأ يتعرف على المرض في سن مبكرة، ويطرح الأسئلة الطفولية المعتادة على والده "رفعت" الخمسيني الذي مَرض بالجذام منذ نحو أربعين عامًا وانتقل إلى المستعمرة، ومنها إلى القرية للزواج والإنجاب: "كنت بشوف إيد أبويا دايمًا مقفولة وعاجزة سألته ده إيه.. قالي ده مرض اسمه الجذام وماتتخضش مني أو تسيبني لو لقيت أيدي تآكلت أكثر من كده".

تعلق الصبي بوالده فور معرفته بإصابته بهذا المرض الغامض، وإصراره على العمل كخفير ليلي في أحد المصانع رغم مرضه، "أنا أبويا بيتعب علشان يصرف عليا وعلى مدرستي".

مئات الأطفال يحملون القدر ذاته من التفاصيل اليومية غير العادية، بيئتهم محدودة الأبعاد والمساحة لا تتعدى عزبة الجذام، كما يطلق عليها أبناء مدينة أبي زعبل، لأن مكونها السكاني الأصلي جميعهُ يحمل آثار المرض، هذه الوصمة التي التصقت بالأجيال الحالية، حتى إن يومهم الدراسي لم يكن كغيره من المدارس المصرية العادية، ففي مدرسة "الأمل" القائمة على مشارف العزبة وفي طريقها الرئيسي، غاب المعلمون عن المشهد، فر معظمهم من العمل بهذه المنطقة التي تعج برائحة المرض.

"المدرسة مفيهاش غيري أنا بدرس لهم كل اللي أقدر عليه عربي أو حساب أو تربية دينية وباقي الوقت الأولاد يومهم فاضي ومشردين في ساحة المدرسة"، بهذه الكلمات تتحدث المعلمة الخمسينية التي تأتي يوميا من منطقة أبو حماد بالشرقية لتلقي على أطفال العزبة ما تيسر لها من مقرر المنهج بعد أن انقطع طاقم التدريس كله عن العمل لبعد المسافة عن المدينة والخوف من "سمعة" العزبة بين الأحياء المجاورة.

"لما كنا في المدرسة كانوا بيقولوا للعيال ما تلعبوش معاهم دول ولاد المجذومين"، بهذه الكلمات يتحدث العشريني أحمد الذي ولد في عزبة الصفيح، لأم مريضة بالجذام وأب متعافٍ، ظل في منزل العائلة وتزوج به وأنجب آدم، وقفته أمام مدرسة الأمل التي تأسست منذ نحو خمس سنوات، تعود به إلى الوراء حين كان أطفال القرية يمشون مسافة أربعة كيلو مترات ليصلوا إلى مدرستهم في منطقة "18 الحربي" في مدينة أبي زعبل، كانوا الفئة المنبوذة، يفر من لقائهم الأطفال فرارهم من الأسد: "ماكنوش بيصاحبونا وشايفين الموبوئين فقط لأن أهالينا مرضى بالجذام".

فرح أبناء القرية بتشييد المدرسة التي ستخفف عن الأجيال المقبلة عبء المرض ووصمته، لكن الفرحة لم تكتمل وبدلا من أن يفر الزملاء من أبناء المدينة منهم، بات المعلمون هم من يتركونهم في منتصف الطريق ويرحلون، مخلفين فصولًا مهجورة ومعامل لم تطأها قدم من قبل.
الجريدة الرسمية