رئيس التحرير
عصام كامل

أعمدة البيت


رحلت الأم والأب، فأصبح البيت مقفرا، موحشا، خاويا من دعائمه الأساسية وسنده ومؤنسه، خاويا من ضمّات حنونة تمسح ألمًا وتخفف وجعًا، فتهون مصائب وتحل مشكلات.


منذ أيام ودعنا زوجة عمي الطيبة الصابرة المحتسبة على مَرضها الذي أدعو الله أن يكون في ميزان حسناتها، إلى مثواها الأخير، وقد سبقها عمي إلى الحياة الآخرة بعدة سنوات، ومثلما كان البيت عامرا بوجودها، أصبح لا شيء دونها، فكانت هي أوصال الرحمة والخير والمحبة التي تمتد وتحيط بالجميع، وفجأة غابت الروح وانقطع المدد.

إننا لا نشعر بقيمة الأحباء، خاصة الأب والأم إلا بعد فقدانهم، عندما نرى الدنيا بوجه آخر غير الذي كنا نَعتاده، آمنا مطمئنا بوجودهم، عامرا خيّرا ببركاتهم، جامعا لا مفرقا في أحضانهم، ورحلوا كما شاءت إرادة الله، فتخللت الوحدة الأوصال، وتهاوت العزيمة، وفُقدت الروح.

أوجعتني التجربة القاسية، حينما صفعتني الحياة فجأة بفقدان أمي، ومن بعدها بعشرة أعوام صفعتني على الخد الآخر بفقدان أبي، حاولت كثيرا تلمس الحياة من بعدهما، فلم أجد لها لونا أو طعما يداوي وحشتها ومرارتها، إلا قليل من الصبر على أمل اللقاء، وبعض من ذكريات الماضي المعلقة على جدران الوجدان تأبى أن تفارقه مذكرة إياي أنه كان يستقر هنا يوما، بيت وأسرة وحضن دافئ يجمعنا.

كان إحساسي ببيت أبي للمرة الأولى بعد مغادرته، وهكذا كان إحساسي عند مغادرة زوجة العم الكريمة، فنحن لا ندرك مع عنفوان قوتنا ومشاغل حياتنا أن بأيدينا نعم لا نعلم قيمتها إلا بعد فوات الأوان، فنَنهر ونقسو ونُغلظ القول، ثم نندم ونندم ونندم بضراوة، حيث لا ينفع وقتها.

ــــ هل تعودون لنا ولحياتنا فنوليكم زمامها ونأنس بكم ونرتشف من فيض أنهار دعائكم؟

ـــ هل تعودون لنا ونقسم لكم بأرواحنا أننا سنكون «صلصالا» يتشكل في أيديكم، دُمى تُحركونها كيف شئتم؟

ــــ هل تعودون لنا فنُبارز بكم الدنيا مهما كانت قوة أسلحتها الفتاكة، ونحن آمنين مطمئنين أن هناك جدارا صلبا في ظهورنا يتلقف عنا الاذى، ويروض الهموم في أعيننا فتَتضائل وتصغر بل وتتلاشى؟

استمتعوا بنعمة آبائكم وأمهاتكم، استمتعوا بنعمة الأسرة، نعم بالغوا في الاستمتاع، فقد فات ما فات، قبل أن تولى لكم الرحمة أدبارها، قبل أن يترككم الخير الوفير ويهدم جدار الأمان، قبل فراغ البيت الذي لا تعمره زوجة ولا أولاد، قبل الوحدة والوحشة، قبل اليتم الحقيقي في الكبر الذي هو أشد ضراوة منه في الصغر.

سابقا تعودت وتمتعت وآمنت، وزال هذا كله، حينما كانت أربعة أحرف تزن في أعيننا الكون بأكمله ثم ذهبت، (أم، أب).
الجريدة الرسمية