رئيس التحرير
عصام كامل

صراعات في فقه الحركة


كنت أتأمل في مفردات الخطاب الإسلاموي منذ عبد الرحمن الكواكبي حتى محمد مرسي، وجدت الحيرة نفسها هل التركيز على التربية والدعوة أم أن العمل الإسلامي يجب أن يكون سياسيا، وهل يكون جزءا من الكلية الوطنية أم يكون حزب معارضة مصمتا لا يدخله إلا من توضأ وصلى واتبع جماعة الإخوان أو الجماعة الإسلامية.


حيرة تيارات الإسلام السياسي وصلت إلى أقصاها في تشكيل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، فكان هناك تيار الدعوة والتربية بقيادة السنانيري ومصطفى مشهور، وتيار السياسة بقيادة عمر التلمساني، ثم توصل الطرفان إلى وجوب غلبة العمل التربوي لأن السياسة صعبة المسالك.

فصفقة خروج الإخوان من السجون في السبعينيات كانت لضرب اليسار والراديكالية القطبية، -نسبة إلى سيد قطب - وعلى هذا الأساس تشكل تنظيم الإخوان المسلمين في مصر أيام حكم الراحل أنور السادات، ثم حاولوا نشر هذا الفقه الحركي في تنظيمات الإخوان عربيا وعالميا.

بعثوا وفدا إلى السودان لإقناع الدكتور حسن الترابي بفقه التنظيم الدولي وأن يبايع أمير التنظيم الذي يجب اختياره من مكتب إرشاد جماعة الإخوان في مصر، ولا يكون معروفا إلا لمكتب إرشاد الجماعة في مصر حفاظا على أمن وسرية التنظيم الدولي، حدث لقاء عاصف في الخرطوم عام 1979 وكان تنظيم الإخوان في السودان قد دخل في المصالحة الوطنية مع نظام الرئيس الراحل جعفر نميري..

بل وانخرط قادة الإخوان في الاتحاد الاشتراكي السوداني، رفض الترابي مبايعة الأمير المجهول كما رفض التنازل عن اجتهاداته المثيرة للجدل خاصة في مجال المرأة وتحملها المسئولية حتى لو كانت الولاية الكبرى أو الإمامة. وفي ظروف معينة أباح زواج المسيحي من المسلمة.

وعندما عاب عليه وفد جماعة الإخوان تحالفه مع نظام نميري واعتبروا ذلك إغراقا في البراغماتية وتوسعا في فقه المصالح المرسلة، وهكذا فقد إخوان السودان حق التصويت في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين لكن يمكنهم حضور اجتماعاته بصفة مراقب، على أن يكون المراقب مقبولا من مكتب إرشاد التنظيم الدولي..

فاختار ترابي الناشط الإخواني المقيم في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية الدكتور أحمد عثمان مكي، فكان همزة الوصل بين إخوان السودان والتنظيم الدولي.. لكن بقي إخوان مصر في حيرة، فهناك جيل شباب متحمس يتوثب إلى الجهاد ومقارعة الحكام، ويرى أن مكتب إرشاد الجماعة تحول إلى ما يشبه المكتب السياسي للحزب الشيوعي. قرارات فوقية وبيعة وسمع وطاعة، ويرون رصفاءهم في التنظيمات الجهادية يتوسعون في مسالك المعارضة المسلحة، وسئموا تصنيفهم بالبراغماتية والانتهازية.

ولعل ذلك ما دعا مكتب الإرشاد إلى تكثيف المعسكرات والرحلات وتشكيل كتائب بلا سلاح تركز على النظام العسكري وفنون القتال والمصارعة، لكن دون سلاح، ولعلنا نذكر كتائب الكاراتيه من إخوان جامعة الأزهر التي شدت الأنظار إبان حكم الرئيس حسني مبارك.

وعرضت الإخوان إلى مساءلة أمنية لأن الصفقة التي أخرجوا من السجون بموجبها وضعت قيودا على التسلح لكنها لم تشمل العلاقات مع الحركات الإسلامية السنية والشيعية المسلحة.

تيار التربية والدعوة شهد انحسارا كبيرا داخل الإخوان.. وأصبح جل التركيز على العمل السياسي والنقابي.. وتدريجيا دخل الإخوان باب العمل التجاري في كثير من التحالفات مع رموز الحزب الوطني إبان عهد الرئيس مبارك، ودون أن يشعروا أصبح إخوان مصر نسخة من إخوان السودان، وتركوا العمل الدعوي لكثير من التيارات السلفية المتباينة في راديكاليتها..

وجميعها تيارات وهابية من أقصى اليمين الذي تمثله الجماعات الجامية والمدخلية وأقصى اليسار الذي تمثله التيارات السرورية مثل القاعدة وداعش، والسرورية تنسب إلى الشيخ السوري أحمد بن سرور خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الذي يعتبر مرجعية ما أسميه بأقصى تيارات البروتستانتية الإسلامية.

كان التمويل تحديا أمام جميع الحركات الإسلامية، ومنذ عام 1928 وقر في تفكير قيادات الإخوان أن العقبة الوحيدة أمامهم هي التمويل، لأن الدعوة توافق فطرة الجماهير، وهم لا مشكلة عندهم في تلقي الأموال من أي جهة كانت، وقد استفاد الإخوان من دعم شركة قناة السويس المملوكة لبريطانيا العظمى وفرنسا في العشرينات وفي أوج الحقبة الاستعمارية..

مرة بخمسمائة جنيه ثم بعشرة ألف جنيه، ومنذ عام 1946 دخل الإخوان بتوجيه من حسن البنا غمار عالم التجارة والمقاولات.. وبعد الهروب الأول إلى الخليج أواخر الخمسينيات دخل الإخوان عالم التجارة الخليجية، ثم بعد هجرة يوسف ندا إلى سويسرا دخلوا عالم التجارة الدولية، ثم توسعوا في عالم المال، طبعا يقول الإخوان إن تمويل التنظيم يأتي من اشتراكات الأعضاء، وهذا يعني أن الجماعة تتكون من آلاف أصحاب الملايين وهذا بالطبع غير واقعي.

تمويل الإخوان يأتي عبر هيئات استثمار وتحالفات تجارية في جميع قارات العالم من الخليج العربي حتى أوروبا والأمريكتين وأفريقيا وأستراليا، دخلوا سوق العقارات في ماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا، يمتلكون مصانع سيارات واستثمارات في مجمع الصناعات العسكرية بالسودان تقترب من 6 مليارات دولار.

وكانوا من كبار المستفيدين من علاقتهم بنظام حسني مبارك، وهناك أصحاب مليارات من الإخوان المسلمين أبرزهم خيرت الشاطر، وعندهم طرق كثيرة لتفادي الحظر المفروض على تمويلهم، بالإضافة إلى شبكة محامين يبحثون عن الثغرات القانونية التي مكنتهم من الإزدهار ماليا..

ولعل المتأمل لاعتصامي رابعة والنهضة سيعرف أن تمويل الاعتصام تكلف أموالا طائلة، ومن يرى الشبكات الإعلامية الإخوانية الآن ومحطات التليفزيون في تركيا وليبيا وشركات العلاقات العامة باهظة التكاليف في الولايات المتحدة الأمريكية، سيرى مدى القدرات المالية لهذا التنظيم.

والمال الوفير من أهم أسلحة الإخوان في السيطرة هي العمل مع الجماهير وحل كثير من المشكلات الإغاثية والتعليمية والعلاجية، ويجب على الدولة تعبئة هذا الفراغ وعدم تركه لهذه الجماعة الاستئصالية، والآن وحتى بعد سنوات من سقوط نظام الإخوان وشن الحرب عليهم من الدولة وقوى المجتمع الواعية يجد الإخوان ثغرات ينفذون عبرها إلى عقول وقلوب الكثير من الفئات الاجتماعية، فلنتوخى الحذر.
الجريدة الرسمية