رئيس التحرير
عصام كامل

محمد سمادوني يكتب: أحفاد عزيزة

محمد سمادوني
محمد سمادوني

أن تجعل أحدا من الناس يقوم بتلميع حذائك فهذا شيء سخيف حقا، لذلك كنت قد اشتريت علبة ورنيش تلميع حذائى كل صباح قبل خروجى من المنزل، فجأة وقع بصرى على صف من الشباب يجلسون بجوار بعضهم البعض وأمام كل منهم صندوق الورنيش وفى يد كل واحد من هؤلاء الشباب فرشاة ضخمة وينادون على المارة يخبطون بظهر الفرشة على الصندوق، لكي يلفتوا انتباه المشاة، وبالفعل جعلونى التفت إليهم، أتأمل جلستهم في صف واحد متجاورين بالقرب من مقهى الأيام الذي يستغل الرصيف الذي أمامه، ويحرم الناس من السير عليه، ويمد فرشة الكراسي والترابيزات على طول الرصيف حتى أنه استولى على نصف ميدان عرابى الذي يقع أمام بنك مصر، والذي كان حديقة غناء في يوم من الأيام منذ بضع سنوات فقط، قبل ن يظهر جهاز التنسيق الحضارى، وقبل مشروع تطوير القاهرة الخديوية الذي دمر البيئة النباتية في هذه المنطقة ووهبها لمقهى الأيام ليقدم حارقات المعسل بأنواعه المختلفة من قص وسلوم وتفاح من خلال الشيشة الفاخرة المزينة بالورق المفضض، لا نعرف نوع التعامل بين الحى والمحافظة وشرطة المرافق من ناحية، ومقهى الأيام من ناحية أخرى، وما هو المقابل لهذه الصهينة، وهذا التغاضي، وغض الطرف، ولكن من المعروف أن السيد اللواء رئيس حى يمر كل يوم من هذه المنطقة متوجها أو عائدا من عمله في سيارته الفاخرة السوداء.


وضعت قدمى على صندوق التلميع، انبرى الشاب يضع طبقة من الصبغة السوداء على حذائي، ثم يقوم بتجفيفها بخرقة بالية، ثم ينشر طبقة من الورنيش الأسود على فردتي الحذاء، ثم يأتي بالفرشة الكبيرة فيقوم بالتلميع، ويعقب ذلك بمحاولة أخرى للتلميع من خلال قطعة قماش من القطيفة أو الصوف، يفعل كل ذلك وهو محني الرأس، في خشوع وسكينة واستسلام، جعلنى أتأمل شعره الحليق، وجلبابه الصعيدى.

عرفت أن الشباب الخمسة من خلال حديثهم، وحديثى معهم، من قرية فقيرة من قرى سوهاج، هجوا منها سعيا وراء لقمة العيش، لأن سبل العيش قد تم إغلاقها جميعا في قريتهم، ففروا إلى محطة القطار، القطار الشعبى، وتمددوا في طرقاته وفوق رفارفه، ونزلوا في أم الدنيا من خلال الباب الذهبى لحياة البائسين، محطة باب الحديد، في ميدان رمسيس وحطوا أمام أقرب شارع، "عرابى"، واختاروا أن يجلسوا صفا واحدا بجوار بعضهم البعض، كأنهم بنيان مرصوص، يتحدثون وهم يعملون، يغنون الموال الصعيدى، ثم يشتركون في غدوة من أقراص الطعمية الساخنة والخبز الطازج من شارع سوق التوفيقية المجاور، في الليل يركبون مترو المرج، يبيتون هم الخمسة وصناديقهم في حجرة صغيرة استأجروها سويا يقضون فيها الليل، يحصون عدد الاحذية التي تم تلميعها خلال اليوم، وعدد الجنيهات التي جمعوها، وفى الصباح يقفون أمام مكتب البريد ليحولوا مبالغ زهيدة لزوجاتهم وأطفالهم في البلد.

هؤلاء هم احفاد عزيزة، إذا توقفوا عن العمل يوما واحدا يجوعون، جدتهم عزيزة ماتت في الترحيلة، لا تريد أن ترتاح يوما واحدا لتعالج ما طرأ على جسدها من ارتفاع في درجة الحرارة، حتى لا تنقطع يوميتها، تحول المرض إلى حمى شديدة وهذيان وخرف تحت ظليلة الترحيلة، والغرابوة الذين خرجوا من قريتهم تحت سياط الخولى وتم شحنهم في سيارة نقل كبيرة مع القفف والسبتة وصور الهدوم وروائح العرق إلى أرض التفتيش ليقوموا بنقاوة الدودة واللطع، اليوم بسبعة والقبض على خمستاشر، هكذا نادى المنادى.

ولعنة الله على جدر البطاطا الذي طلبه الزوج المريض، فلبت عزيزة الطلب فورا، فالمريض طلبه مجاب لا يمكن رده، قد يكون الشفاء فيما طلبه، تركت أطفالها ومريضها وذهبت تبحث عن جدر بطاطا في أرض محمد ابن قمرين الذي اصطادها بمهارة خبير مجرب وغرس جذوره في أرضها الخصبة التي أنبتت البطيخة من أول لقاء ومن أول ضربة في الأرض العطشى، قاومت في الطلعة الأولى التي تمزقت فيها ملابسها الدائبة التي لا تملك غيرها، واستسلمت في الطلعة الثانية حيث سكب شهوته ساخنة في أحشائها، وشمت رائحة الأرض وهى تروى بماء النيل الحار.

يوسف إدريس رائد القصة القصيرة وصاحب رواية الحرام، قال لى بائع الكتب الملتحى في سور الأزبكية الذي نبذ الكتب الأدبية وتفرغ للتجارة في كتب التراث الدينية لأن هذا النوع من الكتب لا يدفع له حقوق مؤلف: هو يوسف إدريس ده ماعندوش غير الحرام والعيب لا حول ولا قوة إلا بالله.

هجر إدريس مهنة الطب وتفرغ لكتابة القصة القصيرة والرواية والمسرحية ثم المقال السياسي، وقد استخدم ثقافته ودراسته للطب أفضل استخدام في عملية الكتابة الإبداعية، فقد أدرك أن الطب والعلاج النفسى ذو طبيعة مائية وليست صخرية، طبيعة سائلة يمكن أن تأخذ شكل الإناء الذي يحتويها، أخذ يعالج شخوص رواية الحرام من هذا المنطلق ويصفهم من الداخل والخارج، ويخرج من الخاص إلى العام، ومن الجزئي إلى الكلى أو العكس بمهارة شديدة وتمكن.

ماذا لو عاد يوسف إدريس ليكتب ويتتبع ويصف كيف عاش ابناء عزيزة ثم أحفادها، لقد اختار أحداث روايته الحرام من خضم بيئة تعانى نظام الإقطاع حيث يسحق الفلاح الأجير المحروم من ملكية الأرض ولكن هو المنوط به زراعتها وحصادها في مقابل قروش قليلة لا تكفى طعامه اليومى.

أعتقد أن لوحة ماسحى الأحذية التي التقطها بيكاسو في خيالى هي الجزء الثانى من رواية الحرام للفنان القدير يوسف إدريس الذي فجر الحدث في روايته بقوله في حزن وظلام القرية المصرية حيث يمتد التفتيش واسعا عريضا لا يكاد البصر يصل إلى مداه، وفى لحظة سكون جليل مهيب حيث يكون الليل وما فيه من نقيق وصرير قد ولى، وحين لا يكون النهار الكامل باصواته وضجيجه قد أقبل، يخرج الغفير (عبد المطلب محمد البحراوى) حيث كان يستحم في الترعة ويرتدى ملابسه، وصلى ركعتى الصبح الحاضر والسنة، ورفع البندقية ذات الروحين على كتفه ومضى على جسر الترعة يخب في نعليه، وبينما كان ماضيا في طريقه إلى العزبة الكبيرة، فوجئ بجسم أبيض غريب يرقد على جانب من الجسر وسرعان ما تلاشت فرحته عندما حملق في الجسم الغريب فوجده جنينا حديث الولادة.

لقد أدرك بطريقة ما أن ما أمامه ليس إلا رضيعا ابر حرام على وجه الدقة.

هنا يصور إدريس صدمة لقاء ثمرة الخطيئة، لحظة البداية في القصة، الغفير الساذج أمام كائن بشرى صغير لا حول له ولا قوة، سيكتشف بعد ذلك أنه جثة هامدة، وسيصف لحظة ولادة عزيزة له، ولحظة الخنق، والقتل، والتخلص النهائى من المولود، أم متزوجة تقتل وليدها في لحظاته الأولى التي يبحث فيها عن ثديها لكى يرضع للمرة الأولى فاذا الام تضع اصابعها في فمه وتكتم أنفاسه.

لم ينس إدريس أنه طبيب وهو يكتب هذا المشهد، حيث استخدم ثقافته الطبية ودراسته الأكاديمية وطوعها في عملية الكتابة الإبداعية، حيث أسهب في وصف الزوج المريض المنتفخ، كما برع في وصف مراحل حمى النفاس التي قتلت عزيزة.

هل كانت تستأهل هذه الكتابة أن يضحى إدريس بمهنة تجعله طبيبا في عيادة خاصة من كبار الأسماء اللامعة في وسط العاصمة حيث الشهرة والثروة والمجد المهنى الذي طالما حلم به كل دارس للطب ويتجه إلى الكتابة القصصية والروائية ويصنع فيها شوارع وميادين ومدنا تحمل اسمه وبصمته وانفاسه وطابعه المميز في الكتابة والوصف والسرد والتحليل في شبكة عنكبوتية سبقت شبكة الإنترنت بسنوات طويلة.

ورغم أن فكرى أفندى المأمور مسئول عن كل صغيرة وكبيرة تحدث في التفتيش، إلا أن مسألة اللقيط الميت أو المقتول ومحاولة العثور على قاتله مسألة لا تدخل في اختصاصه بالمرة، غير حب استطلاع بدأ يراوده، ترى ابن من هذا؟

ووقف فكرى افندى وراح يستعرض العزبة امامه، على رأس العزبة يقع بيت مسيحة افندى الباشكاتب، الشاب الأشقر ذى الطربوش الغامق المعوج والبالطو الأسود النظيف، وهو شاب مهزار طالما ضبط وهو يغمز بنتا من البنات الغائرات الكبيرات، ولكنه لا يبحث عمن يصلح الأب، هو يبحث عن الام فهو لا يصدق الحرام في الرجال ولكنه لأمر ما يصعب عليه أن يصدق الحرام في النساء، وهو يبحث عن الأم وفى بحثه هذا لم يترك أحدا حتى امرأة الباشكاتب (أم لندة) ولكنها كانت في زيارة زوجته منذ أسبوع ولم تكن ابدا حاملا.

وفى بانوراما شديدة التعقيد ظاهرها البحث عن ام اللقيط، أخذنا إدريس في رحلة في قلب القرية المصرية ليعرفنا مفهوم الحرام والشرف في الريف المصرى، وحياة الضنك التي تعيشها الطبقة الفقيرة المعدمة التي لا تملك سوى العمل وليس لها قيراط أرض، والعمل المرتبط بحالة جسدية، فالمريض لا عمل له ولا أجر ولا علاج ولا تأمين اجتماعى. كشف وعرى من خلال سيل متدفق من الصور غير المباشرة والتكثيف القوى الجانب السرى من حياة التفتيش، أسرار أحمد سلطان، وصفوت وامرأة الساعى حبيب، وإم إبراهيم زوجة فقى التفتيش، حتى فكرى افندى وزوجته ودميان ولنده.

ماذا لو عاد يوسف إدربس اليوم، وفى هذا الصدد لا ننسى أن إدريس اهتم في مرحلته الأخيرة بالمقال على حساب إنتاجه الإبداعي، ولكن مقاله كان مميزا، وأحبه الجمهور، فقد هجم الانفتاح الاقتصادى السداح مداح، والفساد والتبعية للغرب والصلح مع إسرائيل وتجريف الأرض الزراعية، وناهض التطرف، وتسلط الغوغائية والجهل، وقد تم جمع هذه المقالات في مجموعة من الكتب أبرزها الإرادة وعن عمد اسمع تسمع وبصراحة مطلقة وفقر الفكر وفكر الفقر وأهمية أن نتثقف يا ناس وجنة الملائكة.

لقد كان إدريس مهموما بالطبقة الفقيرة والوسطى في إبداعه القصصى من خلال مجموعات أرخص ليالى وجمهورية فرحات وقاع المدينة وحادثة شرف والبطل وآخر الدنيا والعسكري الأسود كما كان مهموما بذات القضايا في روايتى الحرام والعيب.

لو عاد إدريس بعد ما يقرب من ثلاثين عاما على رحيله هل كان سيربط بين لوحة ماسحي الأحذية وقصته (النداهة) حيث جذبت المدينة حامد وزوجته بواسطة قوى مجهولة تلوى عنق البسطاء فكان السقوط المدوى.
Advertisements
الجريدة الرسمية