رئيس التحرير
عصام كامل

دعاء عمار تكتب: حضرة الجاني أبي

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

هزنى صراخه الضعيف.. ونشيجه المتألم، جلدني ضعفه وقلة حيلته، كان المسكين أحد أطفال شركات الإنتاج البشرية في شارعنا الضيق. لم يتجاوز التاسعة من عمره المضروب.. كنت أراه أحيانا في لحظة هبوب رياح الجيش الجرار عند خروجنا من المدرسة.. وكثيرا ما كان يأتى لي بكتابه الملطخ بسندوتشات الفول والطعمية لأحل معه واجب المس أحلام، وإذا برجل ما أحب أن يتزوج فإذا به " بقدرة قادر " ينجب عددا من الأطفال لا تسمح به حجرتا منزله ممسكا بذراعه الهذيل يجره تحت قدميه وفي يده الأخري " جريدة " خضراء يلسعك صوتها على جسد هذا المسكين وأنت خارج دائرة الواقعة، تؤلم قلبك قبل أن تؤلم ظهر هذا الضعيف فيصرخ.. ليهوي بجسده على الأرض ليحرقها بكاؤه وتنديها دموعه فلا يلين الأب ولا تشفع للابن نظرته المستجدية بعينيه اللتان احمرتا من فرط البكاء وتوسله الطفولي وعويله المخنوق : "خلاص يا بابا". لكن ما كان السيد الوالد لينتهي أو ليستسلم.. كان أعمى لا يري، أصم لا يسمع، حجر لا ينبض. حاولت أن أدخل منزلى بسرعة.. لم أشأ أن أري هذا المشهد الذي اعتدت مشاهدته كوسيلة عظمي للتأديب. لكن هذا الجسد المرتجف.. وصوته المتهدج دموعه الهطلة، ووجهه المحترق رمقا قلبي بنظرة جعلتني أذهب إليه لأحاول انتشاله من دائرة البؤس تلك.


ذهبت بسرعة إلى الولد وأمسكت بذراعه الأخري أشده من يدي الجلاد.. لكن من أين لامرأة مثلي أن تتغلب على رجل مثله تقف في ظهره " أم " لتدفعه وتشـــــد من أزره : " سيبيه يا أبله " ده واد قليل الأدب ولازم يتربي. لم تسعفني محاولاتي للشد والجذب والتوسل إلى الأب كى يتركه والاستغفار من أجله فحمله حملة واحدة ودخل منزلهم مغلقا باب الجحيم وراءه.. وقفت أمام المنزل عاجزة.. مسكينة كطفل.. حزينة كئيبة، لعنت الحب الفطري ثم ذهبت إلى بيتي.

في المساء صوت صراخ متواصل.. جلبة شديدة أسفل المنزل نزعتني من نومي فانطلقت إلى الشرفة أتعقب أي مصيبة هي من نصيب الليلة.. فإذا بوجهين رأيتهما من قبل ؛ وجه لامرأة شقت قلبها ومزقت روحها وأخذت تصرخ وتلطم خديها، وتكيل من دموعها ما استطاعت الأرض أن تروى به.. جاثمة غائبة عن كل شيء إلا كأس الحزن الذي تتجرعه بجوار جسد رجل قد ركع على ركبتيه ينبعث منه صراخ ثكلي ويسح ملح الأرض دموعا وعويلا، ذراع منه يحمل شبح طفل، ويده الأخري يغرف التراب يمرغ به رأسه. أبيت ساعتها أن أعي.. حاولت أن أقنع نفسي أنني ما زلت نائمة.. أن هذا أحد كوابيسي المزعجة، لكن الصورة ما كانت إلا الحقيقة الأشد لهبا.. لقد صدمت سيارة المسكين.
Advertisements
الجريدة الرسمية