إلى من يعملون فى صمت بلا كتاب إنجازات
كثيرا ما نكتب لنقد أوضاع كثيرة نعيش فيها حاليا وهو واجب وشهادة للحق تقتضى التنوير بمواطن القصور ومواضع الزلل. ولكن قليلا ما نكتب لنذكر العمل الصالح والعمل الطيب مع إن فى ذلك أيضا شهادة للحق لها ذات الأهمية وذات المبرر. لعل ذلك هو مبرر هذه الكلمات القليلة التى لا تفى المستهدفين فيها حقهم.
كأستاذ جامعى بإحدى كليات الحقوق الفرنسية يتوارد على العديد من الطلاب المصريين الذين يقومون بإعداد رسائل دكتوراه فى القانون العام وبهذه المناسبة كنت على اتصال متكرر بالمكتب الثقافى المصرى الذى يقوم برعاية مبعوثينا.
وأتيح لى بالفعل أن أرى نشاطهم الكثيف بعينى. فاختبرت بنفسى ولم أسمع فقط من أحد.
فلى أذن حق الشهادة ولهم ألف حق فى شهادتى.
رأيت فى المكتب الثقافى المصرى التابع لسفارتنا بباريس خلية نحل تعمل تدعو للإعجاب.
رأيت فى هذا المكتب مصريين شعرت معهم أن المصريين فى الخارج هم أسرة واحدة. قدموا للزائر قطعة من مصر وكأن رابطا معنويا يجمعنا جميعا وهو حب مصر. ففى هذا المكان الذى يعرفه كل مبعوث فى بعثة علمية يتحقق التواصل مع مصر وهناك ترى من يسهرون على خدمة المبعوثين المصريين فى كافة التخصصات وليس فى القانون فحسب.
رأيت فى هذا المكتب من يعمل فى خدمة المصريين من المبعوثين على نحو يختلف جذريا عما شهدته أنا إبان بعثتى العلمية التى تعود إلى زمن سحيق. ولمست بنفسى من فريق العمل همهم بمشاكل الباحثين وشئونهم والسهر عليهم.
على أن ما يدعو للإعجاب ليس فقط القيام بالواجب الوظيفى بل محاولة حل المشاكل التى تتخطى هذا الواجب، سواء مشاكل صحية أو دراسية أو إنسانية. ذلك إننى بحكم عملى كمشرف على الرسائل العلمية أعرف الصعوبات التى يلقاها المبعوثون المصريون فى الدكتوراه بفرنسا. وكثيرا ما شهدت من جهود المكتب الثقافى ما هو أكثر بكثير من مجرد أداء الواجب الوظيفى.
ويلزمنى واجب التحفظ أن أحافظ على سرية ما يتعرض له المبعوث من مشاكل فى الخارج. غير إن هنا تحديدا ترى الواجب الإنسانى بسموه الرفيع وهو يخرج من قلوب كبيرة تعمل فى صمت وفى ظل ضغوط كثيرة وبلا مواعيد عمل منتظمة.
رأيت أناسا يغلبون الاعتبارات الإنسانية على مقتضيات اللوائح التى تحد من دورهم. رأيتهم يبحثون عن حلول ويجدونها رغم إن بعض المشاكل ترجع لتعقد النظام الفرنسى وتعنت الشخصية الفرنسية.
رأيت فى مواجهة ذلك الجهد المبذول فى خدمة الآخر وهو ما يقتضى منك أن تبدأ يومك فى السابعة صباحا لتنتهى فى منتصف الليل بلا راحة وتحت ضغوط ومع ذلك تحتفظ بالابتسامة للجميع وبقدرة عالية من التركيز والدبلوماسية. رأيت ذلك فى شخص الأستاذة الدكتورة أمل الصبان المستشار الثقافى المصرى بباريس ويعاونها باقتدار الأستاذ الدكتور شريف خاطر ملحقنا الثقافى. رأيتهما فى أدائهما الرفيع فى خدمة أبناء وطنهم وأود أن أحيى هذا الجهد وهذا العمل. لأن ليس من العدالة أن نشير بالنقد اللاذع على كل شىء ولا نحيى الجهد المشكور والعمل الصالح.
وإذا كان من الشائع أن الرجال يتحملون مشقة الجهد والضغوط فإنه من اللافت للنظر أن مستشارنا الثقافى فى فرنسا تحتمل ضغوطا أنا كرجل لا أستطيع احتمالها. رأيتها أكثر من مرة بابتسامة أنيقة ودبلوماسية فطرية تواجه فى صبر وصمت ردود أفعال أقل ما توصف به هو انعدام اللياقة.
رأيت شخصية قوية تثير فى نفسى معانى التقدير.
رأيت مصر العظيمة فى امرأة.
إن إنجازات هؤلاء لا تكتب فى كتاب إنجازات كما يحلو للبعض أن يصنع هذه الأيام، ولكن إنجازاتهم تكتب فى ذاكرة كل دارس أو مبعوث ممن صنعوا معه خيرا. لأن الخير الحقيقى لا يحتاج إعلانات ولا هتافات تزفه أو تزيفه. الخير الحقيقى هو الذى يقدم مجانا فى صمت بلا دعاية ولا يتعلق بالواجب الوظيفى وإنما يتخطاه ببعده الإنسانى الرفيع.
الخير الحقيقى رأيته فى هذه الابتسامة الجميلة التى ترحب بك وأنت فى أرض غريبة فتذكرك: هنا أنت فى وطنك. هنا أنت فى مصر.
هكذا قرأت ابتسامة الدكتوره أمل الصبان مستشارنا الثقافى فى باريس. لها منى التحية والتقدير لأنها رمز للعمل الطيب من أجل مصر والمصريين. وللزميل الدكتور شريف خاطر خالص الدعوات فى جهوده المبذولة كل يوم من أجل المبعوثين.
