رئيس التحرير
عصام كامل

طه حسين.. المفترِي والمفترَى عليه (الحلقة الثانية)

طه حسين
طه حسين

هل أدخل إلى قلب طه حسين؟

الموضوع مهم، ما زال التيار الدينى مشغولا بمصير طه حسين، هل يدخل الجنة أم النار. مات الرجل وما زالت التُهم كثيرة، والتشويه لا ينتهى، والكذب والافتراء لا يجف. بعض مفكرى التيار الإسلامى، لم يكفهم لحمه، فنالوا من زوجته وابنه. وإذا سألتنى: لماذا كل هذا الغّل مع طه حسين؟ فأرجوك انتظرنى في الحلقة السابعة؛ عندى إجابة طويلة ربما تفيدك.


(٢)
المفكر الإسلامى محمد عمارة، قبل أن يترك رئاسة تحرير مجلة الأزهر العام الماضي، كتب مقالة طويلة عن «مؤنس» ابن طه حسين، أشار فيها إلى أنه مات مسيحيا على ديانة أمه الفرنسية. العجيب في المقال ليس الاتهام؛ العجيب أنه لم يهتم بالأب، ولم يذكره سوى في موضعين عابرين. وهنا سألت صديقي الأزهرى - مات بعد انضمامه لتنظيم داعش- الذي أهدانى المقال: «لماذا لم تسأل نفسك قبل أن تهدينى المقال عن أهمية مؤنس الأدبية والفكرية كى يهتم محمد عمارة به؟ لماذا لم يخطر ببالك أن المفكر الإسلامى يريد أن يطعن في سيرة طه حسين وليس ابنه؟ إن الابن لا أهمية له، مات مسيحيا أو مسلما أو ملحدا، فهو لا يمثل إلا نفسه، ولا يستحق الكتابة عنه، لأنه لا أديب ولا مفكر ولا عالم، إنه شخص عادى. ومحمد عمارة لا يريد مؤنسا، إنما يريد أباه من وراء هذا المقال».

كان رده مستفزا -رحمه الله- وقال لى: «طالما أنت ملحد، فكل من تحبهم ملحدون وكافرون، ولا يمكن أن تميل أو تدافع عن شخص يرفع راية الإسلام».

هل نفتش في قلب «طه»؟

قلت في الحلقة الأولى، إن أحدا لن يفهمه إلا من خلال حياته وظروفه ونشأته، لا يمكن أن أدخل إلى قلبه وعقله بلا استئذان، لا بد أن أستوعب مراحل تطوره، فـ«طه» الأزهري يختلف عن «طه» في الجامعة المصرية وعن «طه» في فرنسا، وعن «طه» في أواخر حياته عندما كتب «مرآة الإسلام» و«الشيخان»، فأى «طه» من هؤلاء سأفتش عنه؟، سألت نفسي، وكانت الإجابة واضحة: «لقد أهملوا آخر ما كتب، وظلوا يحومون حول ما كتبه في بداياته تحت تأثير الشك، وتناسوا آخر ما سطّر، أى سأفتش في آخر حياته».

يحكى كامل الشناوى، عن حوار أجراه مع طه حسين بعد أداء فريضة الحج. سأله عن زيارة بيت الله، فرد عليه قائلا: «ما بالكم تقحمون أنفسكم بين المرء وربه؟».

الشناوى: «إننى بهذا لا أقحم نفسي بينك وبين ربك، ولا بينك وبين قلبك، ولكن أحاول أن أقحم معلوماتى عن المفكر الحر طه حسين».

طه يمسح جبينه بيده، ثم يقول: «لقد سبق أن عشت بفكرى وقلبي بهذه الأماكن المقدسة، زهاء عشرين عاما منذ بدأت أكتب على هامش السيرة، ولما زرت مكة والمدينة أحسست أنى أعيش بفكرى وقلبي وجسدى جميعا، عشت بعقلي الباطن وعقلي الواعى».
الشناوى: «بماذا ناجيت ربك؟»

طه: «قلت له سبحانه: اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض، أنت الحق، ووعدك حق، والنار حق، والموت حق، والساعة حق، اغفر لى ما قدمت، وما أخرت وما أعلنت، وما أسررت، لا إله إلا أنت».

في آخر ما كتب «مرآة الإسلام» يقول: «لم تتصل الأرض بالسماء قط كما كانت متصلة أثناء حياة النبي»، وفى موضع آخر من الكتاب يقول: «ومهما يكن من شيء، فالقرآن جامع لما يحتاج إليه المسلمون من أصول الدين وأكثر فروعه، والسُنّة الثابتة تُفصّل مجمله وتبين ما يحتاج منه إلى البيان».

وهنا سؤال: «هل ما أفعله هو محاولة إثبات إيمان طه حسين».. الإجابة: «لا»، أنا أحاول أن أثبت كذب وخبث وافتراء كُتّاب التيار الإسلامى وغيرهم من الجهلاء والمتطرفين.

لقد كذبوا ونقلوا عن البهائي رشاد خليفة، أن «طه» ادعى القدرة على كتابة عمل أدبى يكون في بلاغة القرآن، وهذه الكذبة منتشرة بين العوام، زرعوها في الأطفال، وصدقها الجميع، حتى أنا. لكن بعد بحث طويل، عرفت مصدر هذا الكذب. أيضا من ضمن الافتراءات، قصيدة «كنت أعبد شيطانا»، المنسوبة له على مواقع الإنترنت، فهى لا تخصه ولا وجود لها في أى كتاب. فهؤلاء هم الإسلاميون.. نبتة الله في الأرض!، لقد عرفتهم وعرفت أبنائهم في سن مبكرة، اقتربت واختلطت بهم، وقرأت في أفكارهم وفى أدبياتهم -لا أدعى أننى دخلت إلى عمق مجتمعهم المنغلق-، ولكنى عرفت أنهم إذا خاصموا.. فجروا وكذبوا وزيفوا، وكل ذلك مباح طالما سيؤدى إلى خدمة فكرتهم وتحقيق الحُلم الكبير.

هل العقل يتعارض مع الدين؟

قلت إن مشكلة «طه» أنه مر بمراحل عديدة، وفى كل مرة كان يتأثر، وينعكس ذلك على فكره، فبعد أن كان يؤمن بالعقل وحده كوسيلة للمعرفة عندما جاء من فرنسا، أخذ بعد ذلك يوفق بينه وبين الدين في محاولة بائسة بالنسبة لى، لكن على كل حال كانت تدل على إيمانه العميق الذي مات عليه.

وهنا أذكر، ما قاله لمساعده محمد الدسوقي، بعد أن تعرض المنزل للسرقة عام ١٩٧١، أى قبل وفاته بعامين: «إننا مؤمّنون على البيت، لكننا غير مؤمّنين على أنفسنا، فأرواحنا بيد الله، والتأمين على الحياة ضد إرادة الله».

«طه» لم يحب الملحدين لحظة، كان يكره التكبر والغرور بكل أشكاله؛ خصوصا لو كان في العلماء. الذين اقتربوا منه قالوا ذلك. قالوا إن «طه» كان أبانا، قبل أن يكون عميد الأدب. على سبيل المثال، كان الأديب يوسف السباعى يناديه: «يا أبي». وتحكى زوجه طه حسين في مذكراتها «معك»: « عندما أسمع أبي من يوسف السباعى، كان ذلك يهز قلبي هزا عنيفا».

في كتاب «من بعيد» وهو من أجمل كتب طه حسين، يقول: «الملحد الذي يمعن في الغرور بقوة العقل والعلم وآثارهما، وبأنه سخر لنفسه الطبيعة، واتخذ لنفسه الطبيعة عبدا يأمر فتطيع، وينتهى فتنتهى، فهو مغرور، متكبر، لأن عقله وقوته وذكاءه، مهما بلغ من العظمة والسلطان، فلن تستطيع أن تعصمه من الأحداث».

أما كتابه «على هامش السيرة»، لم أقرأه وحاولت أن أقرأه قبل كتابة هذه الحلقة، ولم أستطع، واكتفيت بالمقدمة التي قال فيها: «وأعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب، لأنهم محدثون، يكبرون العقل ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه، وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها، وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وإن للناس ملكات أخرى».

هكذا كان «طه» في آخر مراحله، اطمأن إلى ذلك، وحاول أن يوفق بين العقل والدين، فهل هؤلاء الذين يحاربونه قرأوا ذلك؟.. الإجابة: «نعم» وقرأوا أكثر من ذلك، ويعرفون أن طه حسين، أحد أهم الأدباء الذين كتبوا عن الإسلام ووصل به إلى العالمية، لكنهم يكرهونه لأنه أديب ومفكر نجم، وهم يكرهون النجوم، لا يحبون أن يفتتن أحد إلا بهم وبمفكريهم.

و«طه» كان نجما ولم يكن منهم، وهنا الأزمة. لقد حاولوا كثيرا أن ينشروا كذبة كبيرة، وهى انتصار المفكر الإسلامى محمود شاكر عليه. قالوا إن «شاكر» أفحمه وضربه في مقتل، وهذه كذبة كبيرة، وقصة أخرى تستحق حلقة أخرى، الأسبوع المقبل. بإذن الله.
Advertisements
الجريدة الرسمية