رئيس التحرير
عصام كامل

الخروج من ورطة الدولار.. لغز تراجع تحويلات المصريين فى الخارج.. «فيتو» تكشف الأسباب الكامنة وراء أزمة امتناعهم عن إرسال «العملة الصعبة»

تحويلات المصريين
تحويلات المصريين فى الخارج،فيتو

تعيش مصر واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية التى مرت عليها ربما فى تاريخها بأكمله، وليس المعاصر فقط، من انخفاض كارثى للعملة الوطنية «الجنيه» أمام الدولار، إلى تغول السوق السوداء التى أصبحت مثل الكابوس الذى يلاحق المصريين وينهب مدخراتهم ولا يترك لهم قدرة على الوفاء حتى بأساسيات الحياة اليومية. من 2020 إلى 2022، أثرت جائحة كوفيد-19 سلبًا على أكبر مصادر العملة الأجنبية فى مصر -السياحة- كما أثرت الحرب الأخيرة والمستمرة فى أوكرانيا سلبًا على نفس القطاع مع قطاعات أخرى، حيث يشكل الروس والأوكرانيون عادةً جزءًا كبيرًا من السياح المتكررين فى مصر.

كما ساهمت الحرب فى اشتعال أسعار السلع الأساسية، مثل القمح، الذى تعتمد عليه مصر بشكل كبير لإطعام سكانها الذين يزيد عددهم عن 100 مليون نسمة.

وأمام الأزمة المشتعلة لجأ البنك المركزى المصرى بداية العام الماضى إلى تخفيض قيمة الجنيه المصرى للمرة الثالثة، ما أدى إلى خسارة ما يقرب من 40% من قيمته، بعد أن وصل إلى 31 جنيها لكل دولار أمريكى من المصادر الرسمية، لكن تزايد بشكل جنونى ووصل فى السوق السوداء الآن إلى ما يقرب من ٦٠ جنيها.

انخفاض قيمة العملة المحلية، وارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، وتزايد التضخم، جعل من الصعب على المصنعين والتجار الوفاء بالتزاماتهم المالية، ما أدى إلى هروب رءوس الأموال وتوقف الكثير من الشركات والمصانع، بخلاف إحجام المستثمرين عن الدخول للسوق المصرية بسبب التذبذب فى أسعار الصرف والانهيار المستمر للعملة المحلية.

ما الحل إذن للقضاء على هذه الأزمة المستعصية؟ وما السبل المتاحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ التفاصيل فى «ملف فيتو».

 

لا تتوقف الجهود التى تقوم بها الدولة من أجل زيادة تحويلات المصريين بالخارج، مبادرات بالجملة على رأسها «سيارات المصريين بالخارج»، والذى وصل إجمالى عدد المسجلين فيها على المنصة الخاصة بالمبادرة إلى أكثر من 450 ألف طلب، حتى 29 يناير 2024، ومع ذلك تراجعت تحويلات المصريين فى الخارج بشكل ملحوظ وبلغت أكثر من 30%، فما السبب خلف ضعف استجابة المصريين للمبادرات المتتالية؟

يقول بهجت العبيدى، الكاتب المقيم بالنمسا، ومؤسس الاتحاد العالمى للمواطن المصرى فى الخارج، إن المصريين بالخارج هم أحد أهم أعمدة الاقتصاد المصرى، بل هم الرقم الأهم فى مصادر العملة الأجنبية التى تواجه فيها مصر أزمة غير مسبوقة، لاسيما خلال الآونة الأخيرة.

وأكد أن هناك عدة عوامل لا يمكننا أن نغفل أحدها، منها الشلل التام الذى أصاب العالم أثناء جائحة كورونا، وبعدها الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد الطين بلة، أما السياسة النقدية الأمريكية والتى اتخذت من زيادة أسعار الفائدة سبيلا لجمع الأموال الساخنة حول العالم كان بمنزلة القشة التى قصمت ظهر البعير للعديد من الاقتصادات العالمية خاصة الناشئة منها، إذ إن هروب هذه الأموال خلق أزمة ضخمة فى العملة الأجنبية “الدولار” ببعض الدول ومنها مصر، ثم جاءت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتوترات المشهد فى البحر الأحمر لتزيد الأعباء مع انخفاض موارد قناة السويس من العملة الأجنبية.

وأضاف بهجت العبيدى أنه نتيجة لهذه العوامل حدثت هزة عنيفة لسعر الصرف فى مصر، الأمر الذى خلق تباينا هائلا بين السعر الرسمى فى البنوك وسعر السوق الموازى، ما دفع جزءا كبيرا من المصريين بالخارج إلى البيع خارج أبواب البنوك، الأمر الذى قلص بشكل كبير حجم تحويلاتهم بالطرق الرسمية.

وأكد بهجت العبيدى أن البيع والشراء فى السوق الموازى بأسعار عالية للغاية ودون رقابة حقيقية، وهناك الكثير من الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعى تعلن عن البيع والشراء، وهناك أيضًا وسائل مختلفة منعت وصول العملة الأجنبية داخل مصر، منها أن عددا كبيرا للغاية أصبح يطرح العملة الأجنبية فى بلاد الإقامة للبيع، ويقوم هو أو أحد أقاربه باستلام المقابل المتفق عليه داخل مصر، ما يحرم الدولة من العملات الأجنبية، وتكون الخسارة مضاعفة بحرمان الاقتصاد المصرى من تدفق العملة الأجنبية، والمساهمة فى الانخفاض الكبير لسعر الجنيه المصرى مقابل العملات الأجنبية.

ويرى بهجت العبيدى أن علاج هذه المشكلة يكون من خلال طريقين متوازيين: الأول تقليل الفجوة بين سعر الصرف فى البنوك المصرية والسوق الموازى، والثانى الرقابة الشديدة والضرب بيد من حديد على حيتان السوق الموازى.

ويذهب مؤسس الاتحاد العالمى للمواطن المصرى فى الخارج إلى أن المبادرات التى تطلقها الدولة للمصريين بالخارج تأتى بثمارها على كل من المصريين المقيمين فى الخارج من ناحية، وعلى خزينة الدولة المصرية من ناحية ثانية.

ويوضح أن الفائدة المتبادلة تشجع على استمرار هذه المبادرات، منها مبادرة السيارات، والتى حققت نجاحات مشهودة فى مدتها الثانية، ويتوقع أن تستمر هذه النجاحات فى المدة الثالثة التى أعلنت عنها السفيرة سها جندى وزيرة الهجرة وشئون المصريين بالخارج.

من ناحيته، قال علاء سليم، الأمين العام لاتحاد المصريين بالخارج، إن اختلاف السعر فى القطاع المصرفى عن السوق السوداء وراء الأزمة فى تحويلات المصريين بالخارج، مؤكدا أن الدولة المصرية تعمل للقضاء عليه الآن، بمزيد من الإجراءات التى تجعل القطاع المصرفى الرسمى قادر على استيعاب التحويلات بالسعر الرسمى دون وجود أسواق موازية.

وأكد أن ارتباط الجنيه المصرى بالدولار يجعل احتمالات التلاعب به أمرا فى يد الغير كما يحدث الآن، فأمريكا قادرة على العبث فى مقدرات الدول ذات الاقتصاديات الناشئة بمجرد رفع معدلات الفائدة فى البنك الفيدرالى الأمريكى، وبالتالى على مصر العمل على إيجاد مخرج من ارتباطها بالدولار.

وأشار إلى أن زيادة سعر الفائدة فى مصر بقيمة ٢% بالأمس على الإيداع والإقراض يزيد من احتمال القضاء على التضخم، ولكن تبقى المشكلة الأساسية فى توفير المزيد من الدولارات للقضاء على الفجوة فى الأسعار بين السوق المصرفى الرسمى والسوق الموازى.

وأضاف أن التحويلات بالطرق الشرعية فى انتظار إجراءات الدولة للقضاء على السوق الموازى، لكن أزمة الدولار فى جميع الأحوال تحل بزيادة معدلات التصدير التى أصبحت مجزية للمصدريين، لاسيما أن بعض الصادرات يقابلها دعم مجزٍ بالجنيه على الكميات التى تم تصديرها بخلاف قبول المنتجات المصرية لدى المستهلك فى أوروبا وأمريكا بسبب الأسعار المقبولة نسبيا وارتفاع جودتها

من جهته، يرى الدكتور محمود عنبر، أستاذ الاقتصاد الدولى الخبير الاقتصادى، أن زيادة الفجوة بين السعر الرسمى للدولار والسعر غير الرسمى بالسوق الموازية العامل الأساسى لتراجع معدلات تحويل المصريين بالخارج إلى النسب التى نشهدها حاليا، موضحا أن اللجوء إلى سوق موازية بحثا عن تحقيق الربح وتعظيمه من خلال الاستفادة من فرق السعر للدولار والذى يصل إلى ضعف السعر الرسمى بالبنوك.

وأضاف لـ«فيتو»، أن استمرار زيادة الفجوة السعرية للدولار هى كارثة لأى اقتصاد، لما لها من تأثير على كافة القطاعات الأخرى وأداء الاقتصاد بها، لافتًا إلى أن الدولار هو العملة الأساسية التى نعتمد عليها فى كافة تعاملاتنا وتجارتنا الخارجية، وأى نقص فى المعروض منه يؤثر سلبًا علينا ويزيد من تفاقم الأزمة.

وأكد عنبر على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة من جانب صناع السياسة النقدية والبنك المركزى المصرى لتقليل هذه الفجوة بين السعر الرسمى للدولار وغير الرسمى له، وتحجيم قدرات السوق الموازية التى أصبحت عقبة تؤرق اقتصادنا المحلى، بسبب توغلها فى مختلف القطاعات خلال الفترة الأخيرة، لافتا إلى أهمية العمل على استعادة ثقة المواطنين المصريين بالخارج فى القطاع المصرفى المصرى لإعادة معدلات تحويلاتهم من الدولار داخل البنوك المصرية إلى النسب المستهدفة.

وعن أفضل الحلول التى يمكن من خلالها تدارك هذه الأزمة الدولارية، أكد أنها تتمثل فى زيادة المعروض من الدولار حتى تتناسب مع الطلب، ويتحقق ذلك من خلال رفع معدلات الإنتاج المحلى وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتشجيع المستثمر سواء المحلى أو الأجنبى من خلال تهيئة المناخ الاستثمارى الملائم وتسهيل كافة العقبات التى تواجههم، مما يؤدى إلى عودة ثقة المستثمر مرة أخرى بالسوق المصرى وضخ استثمارات جديدة لتوفير النقد الأجنبى والسيولة الدولارية المطلوبة لتتناسب مع المطلوب.

وتابع: أى حلول أخرى دون زيادة الإنتاج وتشجيع قطاع الاستثمار، فإنها بمنزلة حلول مؤقتة وليست دائمة على المدى الطويل، مثل العديد من المبادرات التى تم إطلاقها خلال الفترة الأخيرة، على رأسها مبادرة سيارات المصريين بالخارج، ومبادرة تسوية الموقف من التجنيد للمصريين المقيمين فى الخارج.

من جانبه، قال الدكتور صلاح فهمى الخبير الاقتصادى، إن سعر الصرف هو العامل الأساسى الذى يؤثر على معدلات تحويل المصريين بالخارج، مضيفا: وجود سعرين للدولار عقبة أساسية تفاقم هذه الأزمة، لذلك من الضرورى سرعة ضبط سعر الصرف، خاصة فى ظل عدم وضوح الرؤية الاقتصادية.

وأضاف خلال تصريحاته لـ«فيتو»، أن الفجوة التى حدثت بين السعر الرسمى للدولار فى البنوك وغير الرسمى له بالسوق الموازية، هى التى ساهمت بشكل ملحوظ فى تراجع هذه المعدلات بسبب توجه الكثير من المصريين بالخارج للسوق الموازية بحثا عن الربح والاستفادة من فرق السعر للدولار.

وأكد فهمى على ضرورة تقديم التحفيزات للمصريين المقيمين بالخارج لعودة ثقتهم مرة أخرى بالقطاع المصرفى المصرى، من خلال توفير المرونة الكاملة لهم فى عمليات سحب أموالهم من البنوك فى أى وقت وبالنسب التى يريدونها دون وضع عقبات أو قيود، مع إمكانية وضع نسبة ربح لهم على تحويلاتهم.

ونوه إلى ضرورة إحكام القبضة على السوق وتحديد سعر الصرف ووضع حد له، بالتزامن مع مواجهة السوق السوداء وتحجيم قدراتها، لتحقيق الاستقرار المطلوب والخروج من حالة التخبط التى يشهدها سوق الصرف خلال الفترة الحالية، وسط الأحداث التى تشهدها المنطقة والتى تؤثر على أداء اقتصادنا المحلى.

وبالنسبة لأفضل الحلول خلال الفترة الحالية، أكد أنها تتمثل فى تشجيع قطاع الاستثمارات وجذب المستثمرين الأجانب لضخ سيولة دولارية فى السوق المصرى، مع ضرورة العمل على دفع عجلة الإنتاج وزيادة الصادرات، وتوفير فاتورة الواردات من السلع غير الضرورية، وعدم الاعتماد على مصدر واحد للدولار ليتناسب المعروض منه مع المطلوب.

 

الجريدة الرسمية