رئيس التحرير
عصام كامل

ذاك زمان مضى وانقضى

كنت أنتظر انتهاء شهر أغسطس بفارغ الصبر، فجاء سبتمبر امتدادا للحر الخانق والرطوبة التى تجعل الجلد صمغا، تلزيق، لا يعالجه إلا الدش.. كان شهر سبتمبر من أجمل شهور السنة في مصر، تظللك السحب الرمادية. السارحة في السماء، هادئة متسكعة، وتتجاذبك نسمات باردة مبشرة بخريف، يبعث على الشجن ويثير التأمل..

 

حتى إذا جاء أكتوبر، لبسنا الملابس الثقيلة نوعا، فقد اشتدت النسمات وقويت وانذرت بالبرد ومع البرد السكون، وأناقة الأعصاب، والتئام شمل الأسرة المصرية، بالنسبة لي كانت اللمة غالبا حول وابور الجاز، الذي أحببت صوته الرتيب، ونفثات قشر البرتقال واليوسفي، أعصره على كوشة النار فتنطلق شرارات صغيرة محملة برائحة البرتقال المحببة، ومع الدفء كان كوب الشاى وحبات الفول السوداني مغمورة فيه، لا يكون ناقصك شئ من الدنيا.. 


كنا راضيين وحلوين، لا تكييف، ولا دفاية، ولا محصل كهرباء يطرق عليك الباب كأن عزرائيل جاءك.. ذاك زمان قد مضى وانقضى. لا الجو هو الجو ولا نحن كما كنا، ولا الوطن هو الوطن.. ولا الأرض هي الأرض.. 

 

يفر بعضنا كنوع من العلاج النفسى الذاتى إلى مشاهدة افلام الثلاثينيات، والأربعينيات، حتى فترة الستينيات، نشاهدها بشغف لمجرد أن نرى تلك الشوارع النظيفة والهادئة، والملابس الانيقة للسيدات والرجال، والمفردات المهذبة، نهارك سعيد يا هانم، بونجور يا باشا، يومك جميل يا استاذي.. 


ولا عجب أن كثيرين تمنوا العيش في حقبة الأربعينيات، فهى اكتمال التحضر في الأسلوب والمعايش والمعاملات.. لكن ذاك زمن مضى وانقضى.. وعليك أن تنهض الان وتضبط العيال، كل واحد مشغل تكييف لوحده، وعندئذ استعد للخناقة!

فاتورة الكهرباء


طوال شهور يوليو وأغسطس وسبتمبر الجارى، فقدت البيوت المصرية سلامها الداخلي بسبب اب يقوم منتصف الليل يطفئ الأنوار ومفاتيح التكييفات، ويسب ويلعن، ثم يأوى إلى فراشه، وهو يعلم علم اليقين أن الولاد وأمهم كلهم استانفوا فتح المكيفات.. نور الصالة والع، نور الحمام والع وذلك لمنع اقامة العفاريت، نور الطرقة والع، نور المطبخ والع.. وأنا بدورى في حالة اشتعال.. 


ويجئ المحصل متشيا، لا أعرف سبب سعادتهم الدائمة، غالبا لهم توقيت عجيب، إذ يحضرون قبل القبض بعشرة ايام، يعني والمواطن يلفظ أنفاسه شبه الأخيرة ويقف وفي يده جهاز سداد وفاتورة مثل فواتير الأكشاك، وأنت تصطنع ابتسامة المفلس المتردد، كأنك تستأذنه الإعفاء..  


الغريب أن الذين يسحبون الكهرباء من عيلتك، يختفون تماما حين يطرق المحصل الباب، وإذا تصادف أن فتح احدهم الباب واكتشف أنه المحصل، رفع عقيرته يناديك: بابا.. الكهربا.. كأنه يتخلص من قنبلة فيلقيها في حجرك..


اصطنع أنا الصمم، لكن هذه الحركة التكتيكية لم تعد تنفع مع زوجتى، فهي تتقدم منى وتضع كعب الفاتورة في كفي وتأمرنى: قم شوف بتاع الكهربا.. وأقوم بأقدام مثقلة بالهم والغم.. وابتسم له ليبتسم، فيجود بابتسامة شفقة، ويعزيني بأن كل البيوت على هذه الحال.. 


إحمد ربنا فاتورتك أخف من جيرانك.. في العمارة وراءكم.. تركتهم في معركة، كله مسك في كله..
لما رأني حائرا، قال ولا يهمك حندفع المبالغ أقساط.. شكرته.. لكن أهذه عيشة؟!

 


أن تعيش في بيتك غير آمن من الديون ولا قادر على الوفاء بالاحتياجات التقليدية.. ناهيك عن تكاليف الأكل والشرب والعلاج والانتقالات والمجاملات الاجتماعية.. فذلك كله من دواعي صب اللعنات.. 
بين زمن مضى وانقضى وزمن ثقيل الخطوات نعيشه، يدهسنا، تمضى حياتنا.. في أسى وفى حزن.. وفي أطراف المشهد أوغاد ينعمون ولا يشعرون بالغضب يتجمع ليحرق..

الجريدة الرسمية