رئيس التحرير
عصام كامل

“لغة الجسد” في خطابات جمال عبد الناصر.. العواطف والجرأة طريقه إلى قلب الجماهير.. والصراحة وراء خلود “خطب الريس”

جمال عبد الناصر في
جمال عبد الناصر في إحدى خطاباته

تحل‭ ‬اليوم ‬الذكرى‭ ‬الثانية‭ ‬والخمسون‭ ‬لوفاة‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر،‭ ‬ورغم‭ ‬مرور‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬على‭ ‬الرحيل‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬حاضرًا‭ ‬بقوة‭ ‬فى‭ ‬ذاكرة‭ ‬الكثيرين،‭ ‬بمواقفه‭ ‬السياسية‭ ‬وكذا‭ ‬بخطاباته‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تحظى‭ ‬باهتمام‭ ‬كبير‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬بعضها‭ ‬محفورا‭ ‬فى‭ ‬الذاكرة‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.

كان‭ ‬الراحل‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬يفتتح‭ ‬خطاباته‭ ‬ويبدأ‭ ‬نصوص‭ ‬قراراته‭ ‬التاريخية‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬قرار‭ ‬تأميم‭ ‬قناة‭ ‬السويس،‭ ‬بجملة‭ ‬‮«‬بسم‭ ‬الأمة‮»‬،‭ ‬وصاحب‭ ‬ذلك‭ ‬صوت‭ ‬قوى،‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬رغبة‭ ‬الأمة‭ ‬المصرية‭ ‬وإلهاب‭ ‬مشاعرها‭ ‬بعودة‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ ‬ومواردها‭ ‬للأمة‭ ‬المصرية‭. ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يفتتح‭ ‬خطاباته‭ ‬المهمة‭ ‬بكلمة‭ ‬‮«‬أيها‭ ‬المواطنون‮»‬‭ ‬فهو‭ ‬يسترعى‭ ‬انتباه‭ ‬المصريين‭ ‬ليستمعوا‭ ‬لخطابه‭.‬

سيطرة العواطف
يقول‭ ‬الطبيب‭ ‬النفسى‭ ‬أحمد‭ ‬عكاشة‭ ‬إن‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬كان‭ ‬انفعاليا‭ ‬فى‭ ‬أوقات‭ ‬الغضب،‭ ‬لسيطرة‭ ‬ميوله‭ ‬العاطفية‭ ‬عليه،‭ ‬التى‭ ‬تظهر‭ ‬فى‭ ‬نبرة‭ ‬صوته‭ ‬المرتفعة‭ ‬الحماسية‭ ‬ورفضه‭ ‬المراوغة‭ ‬والخداع‭ ‬والتحايل‭ ‬بكلمات‭ ‬منمقة،‭ ‬لكن‭ ‬لغته‭ ‬تشبه‭ ‬لغة‭ ‬البسطاء‭ ‬وتعبر‭ ‬عن‭ ‬همومهم‭ ‬لهذا‭ ‬اعتبروه‭ ‬واحدًا‭ ‬منهم‭.‬


فيما‭ ‬يوضح‭ ‬الطبيب‭ ‬النفسى‭ ‬وليد‭ ‬عبد‭ ‬الحى،‭ ‬أن‭ ‬ملامح‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬شخصيته،‭ ‬التى‭ ‬اتسمت‭ ‬بالجرأة،‭ ‬واتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬السريعة‭ ‬الحاسمة‭ ‬فى‭ ‬أكثر‭ ‬القضايا‭ ‬تعقيدًا،‭ ‬حيث‭ ‬يظهر‭ ‬فى‭ ‬خطاباته‭ ‬ممسكًا‭ ‬بزمام‭ ‬الأمور،‭ ‬ويشعل‭ ‬الأجواء‭ ‬دائمًا‭ ‬بحماسته‭ ‬المعتادة،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬نكسة‭ ‬1967‭ ‬التف‭ ‬حوله‭ ‬الشعب‭ ‬رافضين‭ ‬تنحيه‭ ‬عن‭ ‬الحكم‭ ‬فى‭ ‬مشهد‭ ‬لم‭ ‬يتكرر‭ ‬ثانية،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬السر‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬التصديق‭ ‬والحب‭ ‬غير‭ ‬المحسوب‭ ‬هى‭ ‬‮«‬جاذبية‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‮»‬‭.‬


وفى‭ ‬دراسة‭ ‬تم‭ ‬فيها‭ ‬تحليل‭ ‬مضمون‭ ‬خطب‭ ‬عبد‭ ‬الناصر،‭ ‬خلص‭ ‬الباحث‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬لجأ‭ ‬للمفردات‭ ‬الدينية‭ ‬فى‭ ‬لحظات‭ ‬الأزمة‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬فى‭ ‬اللحظات‭ ‬العادية،‭ ‬كما‭ ‬تزداد‭ ‬لديه‭ ‬اللغة‭ ‬الأبوية‭ ‬عند‭ ‬تناول‭ ‬موضوعات‭ ‬الخلاف‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬استحضار‭ ‬التاريخ‭ ‬بشكل‭ ‬انتقائى‭ ‬لتعزيز‭ ‬توجهاته‭. ‬كما‭ ‬استهل‭ ‬الخطاب‭ ‬بـ»أيها‭ ‬الإخوة‭ ‬المواطنون‮»‬‭.‬


دغدغة‭ ‬المشاعر
فيما‭ ‬تقول‭ ‬رغدة‭ ‬السعيد،‭ ‬خبيرة‭ ‬لغة‭ ‬الجسد،‭ ‬إن‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬استخدم‭ ‬فى‭ ‬خطاباته‭ ‬الصوت‭ ‬المموج‭ ‬الهادئ،‭ ‬الذى‭ ‬اختلف‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬هيئته‭ ‬الضخمة،‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭ ‬الهادئ‭ ‬عبر‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬الجزء‭ ‬العاطفى‭ ‬فى‭ ‬شخصيته،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬شخصية‭ ‬بصرية‭ ‬يتحدث‭ ‬كثيرًا،‭ ‬وأفكاره‭ ‬حاضرة‭ ‬ومرتبة‭.‬


كما‭ ‬كان‭ ‬لعبد‭ ‬الناصر‭ ‬فى‭ ‬خطاباته‭ ‬وقفات‭ ‬تدرس،‭ ‬فرغم‭ ‬إصداره‭ ‬لقرارات‭ ‬شديدة‭ ‬الصرامة‭ ‬بها‭ ‬فردية‭ ‬فى‭ ‬الرأى‭ ‬وربما‭ ‬الديكتاتورية،‭ ‬لكن‭ ‬الشعب‭ ‬كان‭ ‬يتقبل‭ ‬قراراته‭ ‬بكل‭ ‬حب،‭ ‬فصرامة‭ ‬وقوة‭ ‬قراراته‭ ‬كانت‭ ‬تمنح‭ ‬الشعب‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الطمأنينة‭.‬


أما‭ ‬مع‭ ‬خطاب‭ ‬‮«‬التنحي‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬ألقاه‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬بصوت‭ ‬ضعيف‭ ‬وهادئ‭ ‬ممزوج‭ ‬بالحزن،‭ ‬لكنه‭ ‬ذكر‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬عبد‭ ‬الناصر‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬4‭ ‬مرات‭ ‬فى‭ ‬الخطاب،‭ ‬وذلك‭ ‬يعكس‭ ‬الأنا‭ ‬العالية‭ ‬عنده،‭ ‬لتؤكد‭ ‬رغدة‭ ‬السعيد‭ ‬أن‭ ‬‮ «‬الأنا‮»‬‭ ‬لدى‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬لم‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬النرجسية،‭ ‬فوتيرة‭ ‬صوت‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬كانت‭ ‬الأفضل‭ ‬فى‭ ‬العمل‭ ‬السياسى،‭ ‬وتراوحت‭ ‬بين‭ ‬الارتفاع‭ ‬والانخفاض،‭ ‬والعاطفة‭ ‬يتفاعل‭ ‬معها‭ ‬المصريون‭ ‬حتى‭ ‬فى‭ ‬خطاباته‭ ‬المقروءة،‭ ‬وكل‭ ‬الظروف‭ ‬التى‭ ‬أحاطت‭ ‬به‭ ‬مهدت‭ ‬الأمر‭ ‬له‭ ‬ليكون‭ ‬زعيمًا‭ ‬‮«‬كاريزميًّا‮»‬،‭ ‬والقوة‭ ‬الإيحائية‭ ‬فى‭ ‬شخصيته‭ ‬جعلت‭ ‬الشعب‭ ‬كله‭ ‬يشعر‭ ‬بالقوة‭ ‬والعزة‭ ‬والكرامة،‭ ‬فـ80‭% ‬من‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسى‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬العاطفة‭. ‬

صراحة ووضوح

فى‭ ‬نفس‭ ‬السياق،‭ ‬قال‭ ‬المؤرخ‭ ‬الكبير‭ ‬الدكتور‭ ‬عاصم‭ ‬الدسوقى،‭ ‬إن‭ ‬استرجاع‭ ‬خطب‭ ‬الزعيم‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬كانت‭ ‬أحد‭ ‬عوامل‭ ‬التفاف‭ ‬الشعب‭ ‬المصرى‭ ‬حول‭ ‬رئيسه‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬فى‭ ‬التاريخ،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الخطب‭ ‬تميزت‭ ‬بالصراحة‭ ‬والوضوح‭ ‬والشجاعة،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬الكلمات‭ ‬البسيطة‭ ‬التى‭ ‬تسهل‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬الفهم‭ ‬والمغزى‭ ‬منها،‭ ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬كان‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬العامية‭ ‬باعتبارها‭ ‬قريبة‭ ‬للشعب‭ ‬المصرى‭.‬


وأضاف‭ ‬“الدسوقي”‭ ‬أن‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬كان‭ ‬يتكلم‭ ‬لغة‭ ‬البسطاء‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬التكلف‭ ‬أو‭ ‬التعالى‭ ‬فى‭ ‬الخطاب،‭ ‬بدليل‭ ‬تعبيراته‭ ‬واستخدامه‭ ‬الخطاب‭ ‬كتفسير‭ ‬للقرارات‭ ‬التى‭ ‬سيقدم‭ ‬على‭ ‬اتخاذها‭ ‬ومنها‭ ‬مثلا‭ ‬خطاب‭ ‬تأميم‭ ‬القناة‭ ‬وخطاب‭ ‬بناء‭ ‬السد‭ ‬العالى،‭ ‬وبالتالى‭ ‬فقد‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬جعل‭ ‬المواطن‭ ‬شريك‭ ‬له‭ ‬فى‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار،‭ ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬بعض‭ ‬خصوم‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬أى‭ ‬شيء‭ ‬لإدانته‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬المصرى‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يتذكره‭.‬


وتابع‭ ‬المؤرخ‭ ‬الكبير‭: ‬ناصر‭ ‬كان‭ ‬مستوعبًا‭ ‬جيدًا‭ ‬للثقافة‭ ‬المصرية،‭ ‬ويستطيع‭ ‬التعبير‭ ‬عنها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬يستطيع‭ ‬بها‭ ‬التفاهم‭ ‬مع‭ ‬المصريين‭.‬
 

نقلًا عن العدد الورقي..،

الجريدة الرسمية