رئيس التحرير
عصام كامل

لا صوت يعلو فوق صوت المصيبة

للموت جلال ورهبة، وللفجيعة تعب ونصب، وجدال لا ينتهى وصدمة تعقبها صدمات.. لم يكن يوم الرابع عشر من أغسطس ككل الأيام. ودعت الأمهات أبناءها وبناتها وغادرن إلى أعمالهن، لم تمض سوى لحظات على الوداع اليومى فى حضانة كنيسة أبى سيفين بإمبابة إلا وكان لليوم لون آخر بعثر على الناس كل صنوف الحزن والألم والخيبة.


انقلب الحى الصاخب بأبنائه وبحركة الناس فى الشوارع إلى واحدة من حالات الغوث بعد دوى انفجار ثم حريق، ثم تحول المشهد إلى حلبة من الصراع من أجل السيطرة على الحدث المروع. أهالى الحى الشعبى يتسابقون بين النار والخراب والتدمير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. النار تطول كل شيء؛ البشر والحجر.. الناس والأثاث.. وما بين النار وقسوتها وبين الساعين للقيام بدور والهاربين من نار لا ترحم كانت كل الاحتمالات واردة.


الرئيس يعزى، والوزراء يقطعون إجازاتهم، ورجال الإطفاء يتتابعون على الموقع، والبشر العاديون يتحركون صوب الحدث الجلل، يرفعون الأنقاض ويبحثون عن أحياء. سيارات الإسعاف تقبل وتدبر من موقع الموت الكئيب إلى ساحات الأمل فى المستشفيات، فربما كان للمحمول على الأعناق بقايا أيام سيعيشها دون أن تفارقه تلك اللحظة المرعبة.

الموت وجع الأحياء


يتمدد الحزن ويسكن الوطن، فاليوم فقدنا فى حادث واحد عشرات من أبنائنا أطفالا وشبابا وشيوخا ونساء، يتوقف كل شيء إلا الحزن، وحديث الموت يتسرب إلى بيوت، كانت قبل لحظات تعيش نضالا حياتيا من أجل البقاء. تقارير تتابع وتتناقض وتفسر، والشعب غارق فى تفاصيل الفجأة المؤلمة.. تتوقف الأحداث فى كل الدنيا ولا تتلقى الصحف والمواقع إلا أنباء الحدث الجلل.


مشاهد توابيت الراحلين عنا تبقى هى اللفتة الأخيرة على جثامين كانت قبل لحظات بيننا تحيا وتسعى وتتأمل القادم من أيام، دون أن تدرى أن أيامهم على الأرض قد ولت. أغلقت الحياة أبوابها أمام أكثر من أربعين شهيدا، وانتقل رعب المشهد النارى إلى رحابة الجلال الإلهى، فنحن منه وإليه نعود، ومهما طال الطريق فإليه المنتهى سبحانه.


والموت وجع للأحياء، أما الراحلون فقد كانت آلامهم قبل النهاية هى نهاية لألم الدنيا، فإلى الأبد ذهبوا، حيث لا نصب ولا تعب ولا صراع ولا تضييق ولا شيء غير الراحة.. راحة من الحياة بحياة أخرى. وحزانى القوم يقفون على عتبات الوداع الأخير وقد علت وجوههم كل علامات الاستفهام والرفض وأسئلة العقل المتوقف عند ذكريات لم تغادر مواضعها فى البيوت والمدارس والشوارع والكنائس.


كل شيء مضى كما لو كان شعاعا أسود بدَّل النهار بالليل، وأيقظ فى النفوس كل آلام الفقد، وهناك حول بيوت من غادرونا لا يزال الحزن يدور بأستاره الرمادية الكئيبة، يغلف الأماكن التى كانت حتى وقت قريب تسكنها أوراق الحياة الخضراء. سكنت الأبدان وتركت فينا ضحكات لم تبرح مواقعها، فهنا كانوا يتدارسون، وهنا كانوا يضحكون، وهنا كانوا يُصلون، وهناك على الطرف البعيد كانوا يخططون لحياة قادمة لم تأتِ.

 


على الراحلين السلام، وعلى ذويهم الصبر، وما بين السلام والصبر رحلة من الدعاء والابتهال والشكوى ومسافات قد تطول أو تقصر، فاللقاء يقين، أما الموعد فهو بقرار إلهى.. اللهم صبرنا وصبرهم، وافرغ علينا من آيات الرحمة ما يقوى عزائمنا.. اللهم آمين.

الجريدة الرسمية