رئيس التحرير
عصام كامل

تيران وصنافير ولعنة الأرض


في مقهي كلاسيكي في أحد شوارع باريس تقع بالقرب من كاتدرائية نوتردام كان لقائى مع صديقي الكندي فيليب المصمم الفني للمنتجات الصناعية "لنرتشف الاكسبرسو" وتطرق الحديث عما يدور بالشرق الأوسط فكان يشرد قليلا وابتسم أخيرا ليفصح عن رأيه بصراحة لم يكن يريد أن ينهجها ولكن حماسي الزائد دفعه للبوح فقال: 


في عالم متقدم يخطو خطواته نحو الثورة الصناعية الرابعة التي يحكمها الذكاء الصناعي والإنترنت ويتحدث فيه علماء أكسفورد عن وجود كائنات فضائية متقدمة في حالة من السبات لتعزيز قدراتها من الذكاء الصناعي والتكنولوجيا لتنشط قريبا.. واكتشاف ناسا كوكب سايكي ١٦ وهو الكوكب المعدني الذي تبلغ قيمته إلى أكثر من ١٠٠٠٠ كوادريليون دولار بما يتخطي قيمة الاقتصاد العالمي أجمع ويشكل ثروة من خلال التعدين الفضائى وفي الوقت الذي أصبحت مايكروسوفت وجوجل دولا بلا أرض وأصبح الاحتلال العسكري بالقوة الصلبة في غياهب التاريخ ليبرز نموذج الاحتلال الاقتصادي وتحكم الشركات عابرة القارات في العالم أجمع.. وإلي جانب العولمة التي وضعت آليات التفاوض في الصراعات الدولية للعالم المتحضر من خلال المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية بالتحكيم الدولي ولا يخرج من هذا الإطار إلا المجتمعات الهمجية لتحل أزماتها بالدم.

ورغم أن الشرق هو مهد الحضارة الإنسانية وهو مهد الديانات السماوية ولكن يحيا الشرق الأوسط في لعنة الدم في صراع أزلي حول الأرض.. وتدور أفكار الشعوب وطموحاتها حول الأرض ثم الأرض وينحرف المسار نحو الحرب والحرب ثم الحرب في لغة مختلفة عما يدور خارجا من تطور علمي مذهل حقق للإنسان إبداعات علمية عملاقة كان منذ سنوات هي خيال علمي بحت إلى جانب تطور قواعد التحكيم الدولي للصراعات لخلق سلام أممي وكل هذا العبث يحاك في مهد الديانات السماوية للأسف.. ابتسم فيليب وألقي التحية وانصرف وتركني مشتت الفكر وشردت فيما قال...

شردت في أن استفتاء استقلال أسكتلندا بكل ديمقراطية الذي عاصرناه العام الماضي كان خير دليل.. وكأن أزمة تيران وصنافير ليست في ترسيم الحدود ولكن في القيمة النفسية للأرض لأن ترسيم الحدود البحرية مع اليونان كان أكبر بكثير لما يحتويه من آبار غاز هامة لمستقبل توازن القوى الإقليمية والقيمة الاقتصادية لعملية الترسيم ذاتها.. ولعل السبب يكمن في شعور بعض المصريين بالندية أو السمو الثقافي على الدولة السعودية وآخرون يرونها منبع الوهابية واتهامها بتمويل السلفيين إلى أن نعتها أحد المفكرين المصريين وهو طارق حجي بأن امتلاكها للقيء الأسود ( البترول) لن يحقق لها فرصة قيادة مصر بتاريخها وعراقتها.. وقد اشتد التلاسن في صفحات التواصل الاجتماعي ليظهر عداوة خفية لها جذور مستترة بين الشعبين العربيين وللأسف.

ارتبط مفهوم الوطنية لدينا في علاقاتنا بالأرض ولعل هناك سببين وهي أن الحروب السابقة مع جارتنا إسرائيل كانت بنفس الهدف ( حول الأرض) والذي حركته هجرة اليهود إلى أرض الميعاد حسب المفهوم الديني ليحيي جراح لها خلفية دينية مثل استعباد المصريين لليهود مما خلق عداوة من جانب وعداوة المسلمين والمسيحين لليهود بأسباب دينية من جانب آخر في حلقة مفرغة من الصراع اما السبب الثاني فهو أن الخلفية الحضارية للمصري هي تقديس الأرض نابع من اقدم الحضارات الإنسانية الزراعية ويلاحظ تميز نمط الملكية وارتفاع قيمة الأرض الزراعية في مصر لتمثل القوة والسلطة للعائلات الريفية ويقول المثل المصري (الأرض عرض) مهما كانت الظروف وهي ثوابت وتقاليد أكثر منها تصرفات عقلانية.

إن الاندفاع خلف المشاعر والثوابت والتعصب الديني والالتفاف على مسببات الصراع الحقيقية هو آفة حارتنا ويجب أن نعترف أننا لن نتقدم ونواكب العالم الحديث بدون الاحتكام للمنطق والعلم في التفاوض (فن الممكن) لحل الصراعات وقبول الآخر.. فقد خسر العرب القضية الفلسطينية لأنهم لم يقبلوا حل الدولتين والسلام المتبادل الذي قدمه السادات وتغنوا بالتاريخ واتهموا البعض بالخيانة وذهبت القضية للأبد..

يجب أن نهدأ رويدا قبل أن نتباحث في سعودية أو مصرية الجزيرتين وندرك أزمتنا في طرح وعلاج اختلاف الرأي الذي هو ظاهرة صحية.. وهذا المقال في إطار تفعيل التفكير النقدي وليس لبحث أحقية أي من الطرفين للجزر الذي أعتقد أني لم أدرسه دراسة كافية لأدلو بدلوي وإنما يسوؤنى اندحار مستوى الحوار المجتمعي لمرحلة تهدد السلام المجتمعي وهي مسئولية أخفق فيها رئيس الوزراء في عرض وجهة نظر حكومته والرأي المعارض بموضوعية وبدون مزايدة أو تخوين لصالح الوطن واستقراره..
فيا قوم أليس بينكم رشيد!
الجريدة الرسمية