رئيس التحرير
عصام كامل

البحث العلمى بين الإعلان والإعلام!


هناك قواعد مستقرة في بلاد العالم المتقدمة حول الإجراءات المقننة لإجراء البحوث العلمية، وهذه الإجراءات يتعلمها الباحثون العلميون الشباب في مرحلة تأهيلهم الضرورية ليكونوا باحثين علميين متميزين.

وهذه الإجراءات تتضمن المناهج العلمية التي يمكن تطبيقها والأدوات البحثية المناسبة، كما أن هناك تقاليد علمية مستقرة حول التحقق من صحة نتائج البحوث العلمية المبتكرة.

وهناك في العلم –في حالات الشك في صحة نتائج بحث ما- ما يطلق عليه "التجربة الحاسمة"، وتعنى إخضاع نتائج البحث العلمى لاختبار مقنن هو الذي سيحدد ما إذا كانت نتائج البحث صحيحة أم زائفة، وهل هي ثابتة بحيث يمكن لأى باحث علمى آخر إذا ما طبق الشروط التي أجرى التجربة في ظلها الباحث العلمى المبتكر أن يحصل على نفس النتائج.

إذا ما مرت نتائج بحث علمى بكل هذه الاختبارات الدقيقة للتأكد من ثباتها وصدقها تدخل فورا باب المعرفة العلمية المؤكدة.

نسوق هذه الملاحظات المهمة بصدد الضجة الكبرى التي أثارتها الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة حول اكتشاف جهاز يكشف "فيروس سى" بدقة بالغة وبسرعة، كما أن هناك علاجا مؤكدا يمكن للمريض أن يمارسه فيشفى نهائيا من المرض.

والواقع أن طريقة إعلان نتائج هذه الاكتشافات التي اعتبرت "ثورية" بحكم أنها قلبت موازين التشخيص والعلاج السائدة كانت بالغة الغرابة.

وذلك لأنها أعلنت بدون بيان ما إذا كانت قد مرت بالاختبارات المقننة التي تحدثنا عنها من قبل، كما أن من أعلن عنها لواء مكلف بمعنى أنه لا ينتمى أصلا للقوات المسلحة، ولم نعرف ما هو سبب تكليفه ومنح رتبة لواء، وما هو ماضيه في البحث العلمى وما هي مؤهلاته.

وقد كان من الأنسب لو مهد بإعلان هذه النتائج المثيرة أحد أساتذة الطب المتخصصين في أمراض الكبد ممن تمرسوا على القيام بالبحوث العلمية، ويعرفون جيدا طريقة الإعلان عنها.

وقد زاد من البلبلة التي أعقبت هذا الإعلان أن الإعلام نفسه أو بعض الوسائل الإعلامية قامت بالتشكيك في نتائج البحث، بل كذبت أن هذا الجهاز يستطيع القيام بالتشخيص كما زعم مخترعوه.

وقد ساعد هؤلاء على ذلك بعض التشبيهات غير الموفقة التي صرح بها مخترع الجهاز والتي أدت إلى السخرية العلنية من حديثه على مواقع التواصل الاجتماعى.

والغريب في الأمر أن السيد رئيس الجمهورية المؤقت له مستشار علمى فلماذا لم يستشر في أمر هذا الاكتشاف وهو جزء أساسى من مهام وظيفته، وأين هي أكاديمية البحث العلمى من هذه النتائج العلمية المعلنة؟

في تقديرنا أن إعلان الاكتشاف -حتى لو كان صحيحا- بكل ما صاحبه من تهويل وأقاويل عن أهمية السرية وعدم الإعلان عنه هو السبب في البلبلة التي كان يمكن تجنبها لو اتبعت القواعد العلمية في الإعلان عن نتائج البحوث، والإعلام الصحيح عنها.

وهذه الواقعة وما أثارته من ضجة تشير إلى أهمية نشر ثقافة البحث العلمى في المجتمع، وهناك وسائل متعددة في هذا المجال لعل أهمها على الإطلاق عملية تبسيط العلوم، من خلال كتابات يعدها باحثون علميون لديهم القدرة على إيصال المعلومات العلمية للجماهير، وهذا في الواقع فن قائم بذاته أصبحت له تقاليد فكرية مستقرة في المجتمعات المتقدمة.

ولا بد لنا أن نشير إلى أن المكتبة الأكاديمية في القاهرة وهى دار نشر مشهورة كلفت الدكتور "أحمد شوقى" أستاذ البيولوجيا بجامعة الزقازيق بإصدار سلسلة كرأسات تباع بثمن زهيد تدور موضوعاتها حول تبسيط العلوم، وقد صدرت منها مئات الكراسات حتى الآن، وكان يمكن للدولة وخصوصا وزارة التربية والتعليم أن تستفيد من هذه السلسلة غير المسبوقة في تثقيف طلاب المدارس الثانوية وحتى طلاب الجامعات.

ومن ناحية أخرى تحرص الجرائد والمجلات التي تصدر في الدول الغربية على تخصيص باب عن الاكتشافات العلمية يحرره محررون علميون متخصصون، وكانت جريدة "الأهرام" تقوم من قبل بهذا الدور بفضل محررها العلمى البارز الأستاذ "صلاح جلال" رحمه الله.
الجريدة الرسمية