رئيس التحرير
عصام كامل

امسك.. واحد أمين


أشهد بالله العظيم أن هذه القصة واقعية 100%، وحدثت أمام عينى، ولم يمض على حدوثها أكثر من أسبوعين، وليس صاحبها سوى شخص فقير من أبناء مصر، قطع مسافة أكثر من 200 كيلومتر من المنيا إلى القاهرة، كى يعيد إلى وزارة الأوقاف، نصف راتبه عن 10 أعوام، رأى الرجل أنه كان قد قصَّر فيها فى العمل الحكومى كإمام وخطيب لأحد مساجد قريته الصغيرة المحتاجة..

ضرب الرجل لنا مثلًا فى جلد الذات، ورقابة النفس، لم نره منذ عهدى الفاروق عمر، وحفيده الخليفة عمر بن عبدالعزيز، حيث اشتهر الجد بواقعة "بغلة العراق" التى خشى أن يحاسبه الله عليها، إذا تعثرت على الرغم من إقامته فى المدينة المنورة آنذاك، بينما كان الحفيد يُطفئ شمعة بيت المال فى دولته، حينما كان ينهى أعماله الخاصة بإدارة شئون البلاد والعباد.
وبعد أكثر من 1400 سنة على موت الخليفتين الثانى والخامس وطى سيرتيهما بين صفحات كتب السيرة، يخرج من هذه الأمة عبدٌ فقير، يكاد من تواضعه أن يريح الناظر إلى وجهه الصادق، فلا هو من المترفعين بالثياب الفاخرة، ولا هو رث الحال حتى تضع يدك فى جيبك لتتصدق عليه.
للأسف، أصر الرجل على عدم ترك اسمه، ولم أكن فى مقام يسمح لى بأن أسجل هاتفه الخاص؛ لأننى كنت ضيفًا على الوزارة فى موعد أُخذ مسبقًا.
وأضاف الرجل أنه احتسب الأيام التى غاب فيها عن عمله، والساعات التى انصرف فيها مبكرًا من عمله الرسمى، إلى عمله الخاص، فكان المبلغ نحو 14 ألف جنيه، أخرج منها 4 آلاف جنيه لإحدى الجمعيات الخيرية فى قريته، وبقيت 10 آلاف جنيه، أصر على أن يعيدها إلى وزير الأوقاف، بصفته رئيسه الأكبر فى العمل، وهو المسئول عن إعادتها إلى الدولة؛ لأنه مال عام.
قال الرجل ما معناه: إن سرقة المال العام جريمة كبرى، لا تُغتفر إلا إذا سامحه عنها كل إنسان له الحق فى هذا المال، على مر الأجيال، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
تفرست وجه الرجل بحثًا عن ملامح تملق أو نفاق، فلم أجد فى وجهه ما يشير إلى شىء أكثر من صدقه فى رد مال عام، وجد أنه أخذه بلا حق، فبدرت إلى ذهنى فكرة أن يكون هذا الرجل نواة لحملة إعادة أموال مصر المنهوبة فى عهد مبارك، فرفض الرجل رفضًا مطلقًا، مجرد ذكر اسمه.
أغريته بالظهور فى الفضائيات، فقال إن هذا تنكيل بعمله، وتشويه لنيته الحسنة، وفهمت منه أن ظهوره يفسد فعله، حتى لو كان الظهور على سبيل الجهر بالصدقة حتى يشجع الناس على التصدق.
بعدها دخلت فى "حسبة إجبارية"، استندت فيها لدراسة أكاديمية كانت قد أثبتت أن الجهاز الإدارى للدولة، وقوامه نحو 5.2 ملايين موظف، لا يعمل منه سوى 7% فقط، وهذا معناه أن 4.836.000 موظفين، يجب أن يعيدوا ما حصلوا عليه من أموال إلى خزينة الدولة، كل حسب مدة خدمته.
النتيجة تكون رقمًا خرافيًا، ربما يقيل مصر من عثرتها، التى تعرضت لها بالفعل، دون أن تقدر على الصياح لتقول "وامرسااااااااااه"، ليغيثها رئيس الجمهورية، حسبما تنبأ به الشيخ الدكتور صفوت حجازى فى معرض دعايته الانتخابية لمرشح "الإخوان".
هذه الواقعة تستحق الصياح بأعلى صوت: امسك أمين.. بدلًا من أن نقول "امسك حرامى".
لك الله يا مصر..
barghoty@yahoo.com
الجريدة الرسمية