رئيس التحرير
عصام كامل

الجدل حول برنامج الصندوق الأسود


منذ أن بدأ برنامج الصندوق الأسود بثه لمحادثات شخصية مسجلة ثار جدل بين مؤيدين ومعارضين لهذا البث، وقد تبرأت الحكومة على لسان رئيسها من صلتها به وكذلك وزارة الداخلية، ومما لا شك فيه فإن مقدمه عبد الرحيم على لا يملك تقنية عالية تجعله يتنصت على مكالمات الشعب المصرى، ومن ثم فإن جهة ما نافذة في الدولة هي التي سربت له هذه التسجيلات، ولهذا فلن يفيد النفى والإنكار في هذه الحالة.

واعتقد أنه بعد أن تهدأ الأمور سيواجه عبد الرحيم على سيلا من القضايا ووقتها ستطالبه المحكمة بالكشف عن مصدره، ولا ينطبق مبدأ "الصحفى لا يسأل عن مصدر أخباره " على حالة عبد الرحيم على، فهذا المبدأ ينطبق على معظم الأخبار فقط وليس كلها، ولكنه أيضا لا ينطبق على حالة هذه التسجيلات وأمثالها لأن لها مصدرا وحيدا وهو جهة ما في الدولة، وحتى في حالة الأخبار هناك نوعية منها ينطبق عليها سرى للغاية تمثل خطورة على الأمن القومى.

وقد سجنت صحفية نيويورك تايمز الشهيرة جوديث ميللر في عهد بوش الأبن لأنها رفضت الكشف عن مصدر أخبارها في موضوع يمثل خطورة على الأمن القومى الأمريكى، ومن ثم فإنه مهما كان سقف الحريات المتاحة فهناك مساحة ممنوع الاقتراب منها أو لا يجوز قانونيا وأخلاقيا الاقتراب منها. 

وقد لاحظت أن المناخ الحالى الذي تبث فيه محادثات الصندوق الأسود جعل معظم الإعلاميين والسياسيين والشخصيات العامة يخشى الاقتراب بالنقد من البرنامج حتى لا يساء فهم هذا النقد وكأنه دفاع عن الإخوان أو بعض النشطاء، أو يفسر نقدهم كذلك على أنه جزء من المؤامرة الكونية على مصر أو خوفا من كشف ملفاتهم وفسادهم. 

وقد كسرت هذا الصمت على صفحتى على الفيس بوك وكتبت نقدا أخلاقيا وقانونيا لهذا البث ورصدت ردود الأفعال عليه، وقد جاءت ردود الأفعال في معظمها مدافعة عن البرنامج مع قلة مؤيدة لوجهة نظرى، ولم يفلح موقفى الدائم المعارض بشدة للإخوان ولمعظم هؤلاء النشطاء الفاسدين الذين ذكرهم البرنامج في تقبل نقدى، بل انهال علي البعض أيضا بالاتهامات، وكان هذا كاشفا بدوره لى للمناخ الصعب الذي تمر به مصر حاليا والذي لم يدع للأخلاق أو لصوت العقل مكانا، ومما يؤسف له أن معظم المسلمين والأقباط قد اتفقوا معا على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة فيما يتعلق بمحاربة الإخوان، وهى مسألة تكشف حالة الاستقطاب الحالى من ناحية وتردى المنظومة الأخلاقية في مصر من ناحية أخرى.

يرى المؤيدون لبرنامج الصندوق الأسود أن مصر في حالة حرب، وفى الحب والحرب كل الأسلحة جائزة كما يقولون، فكل ما يهدم الإخوان هو مشروع وكل ما ينهك عدوك هو عمل صحيح. ويقولون إن الإخوان يستخدمون وسائل غير أخلاقية فكيف نستخدم معهم وسائل أخلاقية؟ لأن معنى هذا أننا نقدم لهم مصر على طبق من ذهب. ويقولون إن أمريكا نفسها استخدمت وسائل غير أخلاقية بعد 11 سبتمبر ومنها جوانتانامو فلماذا يلام المصريون فقط؟

وقد لخص أستاذ مرموق في الجامعة الأمريكية بالقاهرة القصة في تعليقه بقوله " هذه التسجيلات هي للاستهلاك المحلي كجزء من حرب نفسية وشائعات وشيطنة لصورة الإخوان داخليا خاصة أن كلا من الثقافة والعقلية المصرية ليست نقدية أو عميقة وتريد إعلاما سهلا بسيطا وأصفر. مصر في حالة حرب وهذا البرنامج موجه لجمهور معين هو الأغلبية من البسطاء للتعبئة ضد الإخوان. مفبرك أو كله أكاذيب ليست هذه القضية بل هل يؤدي البرنامج الغرض في تشويه الإخوان؟ نعم.

أما معارضو البرنامج فيرون أن هذه التسريبات كانت اختبارا لمدى التماسك الأخلاقى في مصر وقد فشل معظم المصريين في الاختبار، أما في الخارج فلا قيمة نهائيا لهذه المكالمات فهى فقط للاستهلاك المحلى، كما أنها علاوة على عدم أخلاقيتها فهى غير قانونية كذلك، وأن احتقار القانون يتم على الهواء مباشرة في تحد سافر لدولة القانون التي يسعى إليها المصريون. كما أنها تعيد سيرة ورائحة وممارسات الدولة البوليسية التي ثار عليها المصريون في 25 يناير 2011.

ومن ناحية أخرى فإن ما أذيع حتى الآن مجرد تفاهات لا قيمة قانونية لها ولا تكشف مؤامرة كما يدعون وإنما مجرد ثرثرة تمثل نمطا شائعا في مكالمات المصريين، أما المكالمات الخطيرة مثل اتصال مرسي بالظواهرى أو حتى اتصال "أبو إسماعيل" بصفوت حجازى فهى ليست بالأصوات الحقيقية وليست بصوت مرسي ولا الظواهرى مما يرجح أنها مفبركة. المؤكد أن هناك اتصالات لمرسي بالظواهرى ولكن الدولة ليس لديها أي فكرة عنها، ولو كان لديهم شيء يدينه في هذا الصدد لكانوا قدموه للمحاكمة فورا. الإخوان ليسوا بهذه السذاجة والظواهرى لا يمكن أن يتحدث في تليفون لأنه سيدفع حياته ثمنا لذلك، ولو كانت هناك خيوط اتصال فمن المرجح أنها كانت عبر قريب الظواهرى محمد رفاعة الطهطاوى أو وسيط آخر أو عبر شفرات متفق عليها، وهذا معناه أن ما أذاعه عبد الرحيم على على لسان مرسي مع الظواهرى هو مجرد فبركات وأكاذيب لا قيمة قانونية لها علاوة على عدم أخلاقيتها.

ويتساءل المعترضون لماذا لا تقدم الدولة هؤلاء للمحاكمة إذا كان لديها أدلة حقيقية ضدهم؟ ولماذا صمتت الدولة طوال هذه الشهور عليهم؟ وهل تتستر الدولة على المجرمين الحقيقيين الذين قتلوا المصريين ونهبوا أموالهم بمثل هذه الأعمال؟ بل ولماذا لم يقدموا قيادات الإخوان لمحاكمات على جرائم حقيقية ارتكبوها بدلا من المحاكمات الاستعراضية التي نراها حاليا؟ وهل فعلا هناك حرب في مصر على الإخوان أم محاولة للعب السياسي معهم كما كان يحدث في عهد مبارك؟

ولماذا لم تكشف لنا المكالمات الشيء الأخطر وهو العلاقات بين الشبكات الجهادية والجماعات الإسلامية في مصر والمنطقة والعالم بالإخوان المسلمين وحقيقة الوضع في سيناء، والاتصالات بين قادة الإخوان وقادة حماس؟ ولماذا لم يكشفوا لنا عن علاقات السلفيين بالإخوان والأموال الطائلة التي تأتيهم من دول الخليج؟ وهل يخطط النظام القادم للتحالف مع السلفيين عوضا عن تحالف المجلس العسكري السابق مع الإخوان؟ وهل الغاية تبرر الوسيلة لدرجة نشر الأكاذيب والشائعات والأخبار المفبركة والتسجيلات الوهمية؟ والأهم متى يعرف المصريون الحقيقة عن الإخوان وحلفائهم وعن السنوات الثلاث الماضية عبر أحكام قضائية موثقة؟

ولماذا الانتقائية في هذه التسجيلات وهناك ما هو أخطر منها مسجل على شخصيات أخرى؟ لماذا لا يكشفون لنا المليارات التي تدفقت بعد 25 يناير 2011 على الإخوان والسلفيين وبعض الأحزاب والشخصيات السياسية والكثير من النشطاء حتى أصبح العمل السياسي تجارة رابحة بعد الثورة؟ ولماذا لا يكشفون لنا عشرات الملايين التي حصل عليها بعض المشاهير من خلال السمسرة مع رجال أعمال مبارك الفاسدين وذلك في عهد مرسي؟

لماذا لم يكشف لنا عبد الرحيم على ثروات أعضاء المجلس العسكري السابق وهم من قتلوا المصريين وسلموا الدولة للإخوان؟ ولماذا يستمر بعض هؤلاء النشطاء الذين ذكرهم عبد الرحيم على يكتبون في صحف كبرى لا يمكن الكتابة فيها إلا بضوء أخضر من الأمن؟ وهل يتجرأ عبد الرحيم على ويكشف لنا كيف تحول هو من صحفى فقير في جريدة الأهالي إلى شخص يلعب بالملايين؟ وما معايير البث والكشف التي اعتمدتها الجهة التي أمدت عبد الرحيم على بها؟ وهل هذا البث جزء من إشاعة مناخ الفزع والرعب والخوف تمهيدا لتدشين استبداد جديد؟ وهل يوجد أمن قومى في ظل غياب أمن المواطن وحريته وكرامته وصون خصوصيته؟ وهل هناك وطنية أساسا دون الدفاع عن حرية وكرامة وحقوق الإنسان الفرد؟

ألا يعتبر الكلام عن الأمن القومى والوطنية كلاما تافها ومزيفا وتجارة رخيصة في ظل التحريض على انتهاك حرية وكرامة وحقوق الإنسان؟ وما قيمة سيادة الدولة إذا انتهكت سيادة المواطن؟ ألا تعد سيادة المواطن هي أهم بل وأساس سيادة الدولة وأمنها القومى؟ وهل هناك معنى للدولة من الأساس إذا امتهنت كرامة مواطنيها ونهبت ثرواتهم وأضاعت حقوقهم؟ والسؤال الأخطر هل صار استخدام المنطق والعقل والحرص على دولة القانون جريمة في هذا الزمن؟
Magdi.khalil@yahoo.com
الجريدة الرسمية