رئيس التحرير
عصام كامل

مود كئيب.."المود" علينا حق


من الإعلانات الطريفة في بعض الجرائد الأوربية أن أصحاب المرامد «محارق الجثث» يقولون إن الحرق أرخص من الدفن.. وهذا صحيح في أوربا لأن الدفن يحتاج إلى نفقات كبيرة لا يحتاج إليها الإحراق، وهذا بالطبع غير ما يشغله حيِّز الدفن من قبور كان أولى بمكانها أن يزرع ويستغل.. وأنا شخصيًا أميل إلى الحرق، وأوثر أن يحرق جثماني بعد وفاتى لجمال الفكرة.


فالنار تحيل جسمى في دقائق إلى بخار ورماد، بدلًا من ترك الجثمان يتعفن، ثم ينتفخ البطن بالغازات، ثم ينفجر، ويبقى على هذا التعفن بضع سنوات إلى أن يذهب اللحم والدم، ولا يبقى غير الهيكل العظمي.

وإنى لأبوح هنا بسر قد يشمئز منه القارئ حين يعرف السبب.. وهو أنه قد مضى علىَّ نحو أربعين سنة لم أذق فيها الفسيخ، ومرجع هذا أنى كنت أشيِّع قريبا لى إلى قبره، وكان بالقبر ميت لم يمض على دفنه عشرون يوما، فما أن فُتِح القبر، حتى خرجت منه رائحة الفسيخ، وسمعت من أحد اللحادين أن الميت السابق «لم ينضج»، وغمرتنا الرائحة كأنها نفذت إلى مسام أجسامنا، وبقيت ملوثًا بها شهورًا.. ومنذ هذه اللحظة إلى الآن، لا أطيق هذه الرائحة، بل لا أستطيع أن أذكر كلمة «الفسيخ» إلا مع الاشمئزاز والقشعريرة، وهذه الحال البشعة هي مصيرنا جميعا بعد الدفن.

وقد يقال إننا نجد في الجبانات عظة وعبرة بالتجوال بين القبور.. ولست أنكر أنى أجد ذلك حين أجول بين القبور، ولكن هذه العظة وهذه العبرة يمكن أن نجدهما أيضا في المرمدة.. بقى أن أذكر أن هناك من يحتفظ بالرماد بعد الإحراق في علبة تصونها الأسرة كأنها كنز.. وعندي أن هذا خطأ.. إذ يجب أن نذروا الرماد في الريح كى نؤكد فكرة الفناء.

أجل إنى أوثر المرمدة على الجبانة، لأن الفناء بالنار أجمل من الفناء بالتعفن.

.. كل ماسبق كتبه المفكر المصرى الاشتراكى الوجودي سلامة موسى (1887 ــ 1958) منذ أكثر من ستين عامًا على وجه التقريب..استدعيت هذا المقال الذي دفنته بين أوراقي القديمة، بعد أن صارت أنباء الموت اليومي كما لو كانت أخبار الطقس، لا نذرف حيالها دمعًا، ولا حتى نمصمص الشفاة!!!

والآن بعد أن اصطحبتك معي إلى المرامد والجبانات، دعنى أخرجك منها، واقرأ معى هذه الحدوتة الصايعة.. حضر رجل هندوسى مراسم دفن والد صديقه بمصر، وعندما شاهد اللحاد يدفن الرجل، اعترض ونبهه قائلًا: كده غلط.. لازم إحرق أوِّل، بعدين إدفن.. فقال اللحاد: لا ياخبيبي، هنا إدفن أوِّل، بعدين ربنا احرق.. وحدوووووووووووه
الجريدة الرسمية