رئيس التحرير
عصام كامل

"عطر..وأمل" قصة قصيرة لـ"يوسف الرفاعى"

عطر..وأمل
"عطر..وأمل"

لم يذكر، حين رآها صدفة فى أتيليه الفن الحديث، كم مضى على آخر لقاء .. كان، حين ودعها قبل سنوات، يثق أنها ذابت فى الزحام كأى امرأة عرفها من قبل.


كان يدرك جيداً أن قدره لن يردها إليه.

على أى حال وجدها. صحيح أن ملامحها تغيرت قليلاً، فقد أصبح وجهها أكثر نحافة، ورسم الزمن بين حاجبيها تقطيبة من ثلاثة خطوط متوازية، ولمح تحت جفنيها هالتين داكنتين تكشفان عن معاناة صامتة.
 
اقتربت الساعة من الخامسة عصراً .. ولم تأت.. بقى يرقب الطريق الموازى للمطعم الفاخر حيث ينتظرها.. فى نفس المكان الذى التقاها فيه قبل الفراق.

صحيح أن الزمن تغير.. واختلفت ديكورات المطعم كأى شيء فى بلده..الشوارع أصبحت أكثر زحاماً بسيارات عصرية، لافتات المحلات هى الأخرى أصبحت أكثر بهجة وتغريباً.

تذكرها بينما كانت الدقائق تبدو مشلولة. ظن للحظة أن عقارب الساعة ترقبه وهى تحبس أنفاسها. لكنه انتبه إلى أن الوقت يمضي.. يمضى ومعه عمره وذكراها التى بقيت مثل طوف خشب عائم فوق ماء فى وسط محيط .. تطفو فوق كل الذكريات.

انتبه فجأة حين رآها تعبر الشارع باتجاه المطعم. خطواتها لا تخطئها عيناه.. أنيقة فى كعبها العالي، وفى مشيتها كعارضة أزياء، ألوان، كالعادة، متناسقة، تنورتها القصيرة تغلفها كباقة ورد. غابت بينما كان يترقب صعودها درج المطعم. حين لاحت، نبضَ قلبه، رغم أنه اعتاد على ركود نبضاته.

هندم شعره الرمادى بسرعة.. عدّل من نظارته كعادته كلما ارتبك.. نهض يستقبلها..

حين اقتربت، وامتدت إليها يده لتعانق يدها، زادت نبضات قلبه سرعة.

أشرقت ابتسامتها، كأن الزمن لم يلعقها. لفها بنظرة تشتهيها. تعمد أن يدور نصف دائرة حولها ليسحب لها المقعد المقابل.. لكنه تعمد إلقاء نظرة على جسدها.

بقيت فى شعرها لمعة أحبها ذات يوم وجعلته يتعلق بها. لاح عطرها يثير لهفة لها فى أنفه.

جلست، وعاد عو إلى مقعده. جلس. بادرته وهى تبتسم بابتسامتها الهادئة نفسها .. قالت: لم تتغير .. لازالت رومنسياً.
سألها بتلقائية: صحيح؟

أردفت: لم يسحب لى أحد قبلك مقعداً

قال: حتى أنت لم تتغيرى

هدأت ابتسامتها كمن وجد ضالته.. فكرت قليلاً وقد اتكأت بظهرها لتلامس ظهر المقعد..
قالت: لا تجامل.

قال: لامعة كما أنت

أجابت بسرعة وهى تضحك برنّة جميلة: كريستالة ..أليست هذه كلمتك؟

قال: مؤكد.. أنت قطعة كريستال.. تلمعين ببريق مثير

باغتته: قل لى .. كيف حالك مع زوجتك؟

قال، وكأنه لا يريد الخوض فى حديث عنهما: بخير

قالت: مازلت تغير عليها .. حتى فى وجودي؟

ألقى نظرة عبر زجاج نافذة المطعم، وسرح قليلاً.. ثم أردف: يبدو أن انفاصلنا لا مفر منه

قالت، وهى ترسم الاهتمام على ملامحها: يا رجل !

التفت إليها وأردف: صدقينى

قالت: أنا أيضاً سأتركه
 
سألها: من؟

قالت: كأنك لا تعرف

أجاب سريعاً وهو يرتكز بمرفقيه على الطاولة ويقترب: لا تقولى إن التوتر بينكما عاد

قالت: منذ أصبح رئيساً للتحرير باتت له ألف عشيقة

ضحك بصوت مسموع، وقال: ليست هذه مشكلته وحده.. فكل رجل خائن بالفطرة

بدت جادة وأردفت: لا تتكلم مثله

نظر فى عينيها مباشرة وتركهما تلمعان .. فتسمرت حدقتاها للحظات ..

قال: يكذب عليك من يدعى أنه قدِّيس

خلعت عينيها من مصيدة عينيه .. ونظرت بعيداً وسرحت.

مد أصابعه بهدوء كحيّة، يحتوى كفيها الناعمين بين كفيه.. قربهما من شفتيه وقبلهما.

تركتهما لتتحسس كم هى دافئة شفتاه، بينما استسلمت عيناها لمصيدة عينيه ..

قالت: لازلت تشتاق إلي..

لم ينطق بكلمة.. فقد انشغلت شفتاه بتقبيل أناملها.

ضحكت بصوت خافت وهى تهمس: دعنى يا مجنون .. الناس تلحظنا

قال: دعيهم .. لو علموا بعذابنا لعذرونا

قالت: الناس لا تعذر .. سيجعلون منا قصة تلوكها أقلام الصحفيين

قال: لا تجعلى شهرتك تحرمك أبسط حقوقك

قالت، وهى تسحب كفيها: دعنا نلتقى فى مكان أكثر أمناً

قال: سأفترسك ..

ضحكت، وقالت: لا يبدو أنك فقدت شبابك رغم شعرك الرمادي، أيها العجوز

قال، وهو يضرب صدره بقبضتيه: سترين أننى لازلت قوياً

سعل .. وطال سعاله..

وانشغلت هى عليه .. قالت: دعك من السيجار .. سيقتلك

قال، وهو يحاول التماسك من سعاله: لا تنشغلى .. لقد اعتدت على ذلك

عاوده السعال، واحمرت عيناه قليلاً. قربت منه كوب ماء.. شرب.. وبعد أن هدأ قليلاً أشعل سيجاره.

نظرت فى عينيه مباشرة .. وسألته: لم تنجب بعد؟

قال: نجل الكره تعيس

قالت: مجنونة من يجود عليها الزمن بقلب شخص مثلك رومنسى وراق ولا تعرف كيف تحبه

قال: الله يحفظك .. لكن هذه حقيقة

صمت قليلاً وأردف: اشتقت إليك

قالت: أعرف

قال: هل يوجد أى مخرج لمشكلتنا

قالت: لن يحسمها إلا الزمن

قال: لقد ضاع من عمرنا الكثير .. هل تظنى أنه بقى لنا المزيد

قالت: تربطنى به علاقة معقدة. صمتت قليلاً ثم أردفت: فكرت أقتله

ضحك حتى كاد يزلزل المكان

اقتربت منه وهمست: كف عن الحك يا مجنون .. الناس تنظر

قال: تشعرينى أننى فى وسط دراما أمريكية

فتحت حقيبتها الصغيرة وقربتها قليلاً منه وقالت: انظر

نظر فى حقيبتها وذهل لرؤية مسدس .. ثم أردف: لا أصدق .. هل أنت جادة ؟ هل ستقتليه فعلاً؟

قالت وهى تطوى حقيبتها وتعيدها إلى حيث كانت ممسكة بها بكفيها: سأقتله.. فقدت كل الحلول الأخرى

بقيت على وجهه ابتسامة حزينة، وهو يشملها بناظريه، حين قال: كتبت قصصاً كثيرة ولم تصدفنى حالتك
 
قالت، وعيناها تلمعان: أحبك

عبرت عينيها دمعة لامعة.

اقتربت أنامله مجدداً تحتوى كفيها.. مسح دمعتها بنعومة وقال هو يبتسم: يكفينى هذا الشعور
قالت: كم أنت قنوع

قال: لست أنانياً .. بينكما طفلان

قالت: هنا المشكلة

ضحك مجدداً واقترح: أستطيع أن أخلصك منه وتحتفظى أنت بطفلك وثروته

قالت وهى تضحك بنفس سحرها المعهود: أشعر بجوع .. هل لازلت بخيلاً ..

صفق طالباً النادل .. قالت وهى تقترب منه: من الآن فكر لنا فى حل من وحى شياطين مسلسلاتك

ضحكا..

وصل النادل، وأتى الطعام الشهى .. ومضى الوقت بينهما يتقافز كمحترفة أيروبكس..

اقترفا قبلة عابرة، بينما كان يودعها قرب سيارته.

افترقا .. وفى أنفه عطرها .. وفى قلبه أمل.


الجريدة الرسمية