رئيس التحرير
عصام كامل

كيف تراجع العباقرة وطفت الرويبضة؟!

لا يزال الرجل عالمًا ما طلب العلم.. هذه قاعدة ذهبية تضمن البقاء ومراكمة النجاح، وحتى نتعلم لابد أن نتحلى بصفات أهمها أن نتواضع في طلب العلم وأن نتحلى بالصبر أثناء التعلم. وهما ركيزتان أساسيتان لأي رحلة تعلم ونمو مستمر ناجحة تريد القيام بها، والبحث عن أصحاب القدرات والمهارات التي لا تمتلكها، أو لم تحظ بفرصة لكسبها وتعلمها. 

 

فإن استطعت مهما يكن تخصصك ومهنتك؛ صحفيًا كنت أو طبيبًا أو محاميًا أو حتى سياسيًا، أن تتصل بصاحب مهارة أو علم محدد، ولو كان في سن أصغر منك، وطلبت أن تتعلم منه بصورة وأخرى، ووافق برحابة صدر على ذلك، فهذا إنجاز لابد أن تتواضع وتصبر وتحرص عليه وتستمر فيه. 

 

حاول إذن أن تتعلم من أي أحد، أي شيء مفيد، ولا يصح أن يقف شعورك بعلو مكانتك الاجتماعية أو المادية أو حتى سنك أن تترفع أو تتكبر عن التعلم من الغير، لأن الخاسر هنا هو أنت وليس أحدًا غيرك. 

 

حتى تتعلم أو تكسب علمًا، لابد أن تصفي نفسك من كل موانع عدم التعلم، وأهمها روح الكبرياء، كما أسلفنا، أو التعالي لأي سبب كان.. فلا يمكن أن تتعلم وأنت لا تحترم وتوقر من يعلمك، بغض النظر عمن يكون هذا المعلم. ولن ترتقي بما تعلمته إذا اعتقدت لحظة واحدة أنك اكتفيت من العلم. وكلما تواضعت تعلمت أكثر فأكثر.. وهذا جوهر ما أدعو إليه.


أما لماذا عليك أن تتعلم وتتمسك بكل مصدر علم حولك؛ كتابًا كان أم معلمًا، أو صاحب خبرة، فذلك لأن الحكمة غاية المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها وحين أغفلنا هذه القاعدة ماذا حدث.. انظر حولك في كل مجال لتجد أنصاف المتعلمين يتصدرون مواقع كثيرة تفتقر للإبداع الحقيقي لتظل مشاكلنا هى هى..

ظاهرة الرويبضة

فهل المشهد الثقافي أو الأدبي أو الصحفي أو العلمي مثلا، يتصدره عباقرة وقمم وهامات ومبدعون من طراز رفيع يشار لها بالبنان بحجم طه حسين أو توفيق الحكيم، أو نجيب محفوظ، أو محمد حسنين هيكل.. 

 

لماذا اختفت ظاهرة الرواد، وطفحت ظاهرة الرويبضة، وهو الرجل التافه الذي يتكلّم في الأمور العامة، وقيل: هو الرجل الذي لا يُنظرُ إليه، ولا قيمة له، ويتكلّم فيما شاء من أمور العامة، ويرفع من يشاء من الناس، ويحطّ من يشاء منهم.. 

 

وقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة معنى الرويبضة لما سألوه، فقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة – سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة.. 

ففسر الرسول صلى الله عليه وسلم الرويبضة بأنه السفيه الذي لا عقل له، ولا كياسة عنده يتكلم في أمر العامة. وهذا من فساد الأمور، وانقلاب الأحوال، ورجوع الأمر القهقرى في آخر الزمان.


والسؤال: لماذا اختفت القامات والعباقرة في مجالات كثيرة في حياتنا.. لماذا تفتقر صحافتنا وإعلامنا لقامات رفيعة الطراز.. لماذا لا نجد مثلًا صحفيًا ساخرًا على شاكلة العبقري أحمد رجب أو كاتبًا صحفيًا بحجم أحمد بهاء الدين أو جلال الدين الحمامصي، لماذا لا نجد عالمًا جاب الآفاق وحاز المكانة العالمية العالية كما فعلها الدكتور أحمد زويل صاحب نوبل..

 

الاستثناء الوحيد اليوم يتجسد في اللاعب الدولي محمد صلاح الذي بنى نفسه بنفسه، ولا فضل لأحد عليه، بل ربما أخطأت المنظومة الرياضية والأندية الكبرى في حقه، حين أخفقت في اكتشاف ملكاته وقدراته التي أبهرت العالم وبوأته الصدارة  في الدوري الإنجليزي.


غياب العباقرة والرواد الحقيقيين في مجالات كثيرة خلق فراغًا تمدد فيه رويبضة كثيرون حتى لم يجد الشباب أمام إلا هذا النوع الردىء ليتخذوه قدوة ومثلًا يحتذى في الحياة؛ ولا يخجلون من محاكاة تصرفاتهم وطريقة ملبسهم وربما كلامهم وحتى آرائهم في الكون والحياة.. 

 

وتلك ثالثة الأثافي التي حذرنا منها النبي الكريم بقوله: "إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُهُ منَ النَّاسِ، ولَكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العُلماءِ، حتَّى إذا لم يترُك عالمًا اتَّخذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئلوا فأفتوا بغيرِ عِلمٍ فضلُّوا وأضلُّوا".

 

 

والمعنى أن اللهَ لا يرفع العلم من الناس بازالته من قلوب العلماء ومحوِه من صدورهم، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء وموتهم، فيضيع العلم، فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى، وكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم، حتى إذا لم يبق اللهُ عالما ومات أهل العلم الحقيقي، وصل الجهلاء إلى المراكزِ العلمية التي لا يستحقونها؛ من تدريس وإفتاء ونحوه، وجعل الناس منهم علماء يسألونهم.

فيفتون بغير علم لجهلهم، فيحلون الحرام، ويحرمون الحلال، فيضلون في ذات أنفسهم عن الحق، ويضلون من اتبعهم وأخذ بفتواهم من عامة الناس. ولا تغني المؤلفات والرسائل وغيرها عن وجود العلماء؛ لأنها لم تفهم على وجهها الصحيح بدونهم. وفي هذا الحديثِ: الحث على تعلم العلم.. فهل نعرف فضل من سبقونا ونحسن التعلم منهم؟!

الجريدة الرسمية