رئيس التحرير
عصام كامل

سلطة تفسير الدستور


عندما أعدوا الدستور المصرى الجديد، كانت ومازالت أفق عدم المشروعية تظلله من كل جانب. وتصور طرة من المتفيهقين إنه بتضمينه ما شاءوا من النصوص يحصلون بذلك على ما بغوا من السلطة، وهنا يكمن الخطأ الجسيم ولكنه واحد من الأخطاء العديدة التى وقع فيها بعض الموالين للنظام الحاكم والمدافعون عنه بحجج قانونية خرقاء.

إن الاعتقاد الساذج والراسخ بأن الدستور الجديد كما وضعوه وصوّتوا عليه فى ليلة واحدة سيطبق ويفسر طبقا لإرادتهم، شأنه فى ذلك شأن القول بأن إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر فى فرنسا فى ٢٦ أغسطس ١٧٨٩ والملحق بدستور فرنسا الحالى تحمل مواده اليوم ذات المعانى القانونية التى أريدت له سنة إصداره منذ قرنين من الزمان. وشأن هذا الاعتقاد أيضا شأن الوهم القائل بأن دستور فرنسا الصادر سنة ١٩٥٨ يفسره اليوم قاضيه الدستورى بذات المعانى التى أريدت له عام إصداره منذ أكثر من نصف قرن. هذه أوهام وأضغاث أحلام لا تمس لحسن الحظ أذهاننا كأستاذة للقانون الدستورى فى فرنسا ولكنها تمس فكر بعض أساتذة القانون المصريين المنتمين للسلطة وبكل أسف تصل أوهامهم إلى درجة المعتقد واليقين الحتمى، والسبب مع الأسف هو عدم متابعتهم العلمية للتطور الهائل التى عرفته نظريات التفسير الدستورى فى فرنسا وفى العالم بأسره، ولو عرفوها لما صرحوا على سبيل الخطأ الفاحش بما صرحوا به على سبيل القطع واليقين ولكانوا قد فتحوا بابا للحذر أو للشك.
والأمثلة فى النظم الدستورية عديدة لنصوص دستورية تقول شيئا وتفسير دستورى له حجية الشىء المقضى به وملزم للكافة، وينتهى بحكم مغاير تماما لما يقوله النص الدستورى المعيب والمختل الصياغة. ذلك أن قانونية القاعدة لا تكمن فحسب فى إرادة واضعها بل فى المعنى القانونى الذى يعطيه إياها من فسّرها. والتفسير الوحيد للقاعدة الدستورية الذى يعتد به هو تفسير القاضى الدستورى فى أحكامه. لأنه التفسير الوحيد الملزم قانونا. ولنفهم جيدا من الآن فصاعدا أن الاعتبارات السياسية والمصلحة الشخصية للبعض لا تبرر أن يعلو التفسير الشخصى للفقيه على التفسير القضائى للمحكمة.
وفى مصر الأسئلة تثور حول العديد من المواد التى انطوى عليها الدستور الجديد والتى يمكن أن تفسر تفسيرا قضائيا مغايرا تماما للإرادة التى وضعت النص غير المقبول. وليس فى ذلك بدعا من القول طالما استند القاضى إلى نصوص أخرى فى الدستور ذاته وبنى عليها حكمه . فالمشكلة الكبرى فى الدستور الجديد هى التناقض بين أحكامه التى تجبر القاضى على اللجوء إلى تفسير يغلّب فيه نصا على آخر أو يحاول به التوفيق بين نصين متعارضين. وسوف اقتصر على مثل واحد قريب وبالغ الأهمية..
تنص المادة (233) من الدستور المصرى الجديد على أن تؤلف أول هيئة للمحكمة الدستورية العليا عند العمل بهذا الدستور، من رئيسها الحالى وأقدم عشرة من أعضائها. ويعود الأعضاء الباقون إلى أماكن عملهم التى كانوا يشغلونها قبل تعيينهم بالمحكمة"، وتتناقض هذه المادة مع مادة أخرى فى الدستور ذاته وهى المادة (170) التى ترسى مبدأ استقلال القضاء كمبدأ دستورى وذلك بتعبيرات قانونية واضحة الدلالة:
" القضاة مستقلون غير قابلين للعزل، لا سلطان عليهم فى عملهم لغير القانون، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات. ويحدد القانون شروط وإجراءات تعيينهم وينظم مساءلتهم تأديبيا؛ ولا يجوز ندبهم إلا ندبا كاملا وللجهات وفى الأعمال التى يحددها القانون؛ وذلك كله بما يحفظ استقلال القضاء وإنجاز أعماله" .
كما تتناقض المادة الانتقامية الخاصة بالمحكمة الدستورية فى مقتضاها وآثار أعمالها مع نص مادة أخرى فى الدستور وهى المادة (168) التى تنص على أن السلطة القضائية مستقلة تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتُصدر أحكامها وفقا للقانون. ويبين القانون صلاحياتها والتدخل فى شئون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم".
ثم يأتى قانون المحكمة الدستورية العليا ويفسر معانى النصوص الدستورىة السابقة ويفصل مقتضياتها بشأن المحكمة الدستوريه العليا ونقصد هنا القانون رقم 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا حيث تنص المادة 11 منه على أن أعضاء المحكمة غير قابلين للعزل ولا ينتقلون إلى وظائف أخرى إلا بموافقتهم. وهذا يعنى أنه لو قدمت المستشارة تهانى الجبالى طعنها إلى الجهة القضائية المختصة بإلغاء قرار عزلها لأمكن للقاضى أن يفاضل بين النصوص ويغلب تطبيق نص دستورى على نص آخر يتناقض معه وفقا لقواعد التفسير الدستورى المعروفة.
وليعلم من لا يعلم أن العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية من ناحية والقضاء الدستورى من ناحية أخرى تمت حمايتها والحفاظ على توازنها من الخلل وذلك كله من خلال الأحكام التى فرضها القاضى الدستورى وتفسيراته للدستور فى فرنسا. وفرنسا تقدم المثل لأساتذة القانون فى مصر من الذين شاركوا فى فبركة الدستور الجديد. فلم يكفوا عن الإشارة لها دون علم كاف بها وبالأحكام التى أصدرها المجلس الدستورى الفرنسى التى قلبت نصوص الدستور رأسا على عقب. فبعد أن كان ينص على الاختصاص الحصرى للتشريع فى بعض المواد فسر القاضى الدستورى هذا الاختصاص تفسيرا موسعا أطلق به يد المشرع فى كل المواد وذلك شريطة عدم معارضة الحكومة للتدخل التشريعى فى المجال اللائحى.
فالدستور نص يفسر وليس فقط نصا يصاغ. والمعايير الوارد ة فى قواعده تحددها إرادة القاضى الدستورى وهى الإرادة الوحيدة المنوط بها تحديد مقتضى القانون الأعلى لأنها الإرادة الوحيدة التى تحوز حجية الشىء المقضى به ولها الطبيعة القانونية الملزمة.
فكل هذا السعى من أجل إدراج نصوص جوفاء لا قيمة لها لأنه يوم أن يطعن على التشريع بعدم الدستورية يحق للقاضى الدستورى أن يفسر ويوفق ويوازن بين النصوص إلى حد تغليب تفسير على آخر ونص على آخر، وهكذا يؤول حثيث السعى عبثا ويتمخض الجبل فيلد فأرا.

الجريدة الرسمية