رئيس التحرير
عصام كامل

المقابر الحية

حن الحفيد إلى جده ففكر فى زيارته، وفى الطريق إلى آخر بيوت الجد في الدنيا كان الشاب يتذكر بعض ما كتب عن جده، وبعض ذكريات تحكيها الأسرة كلما اجتمعت.. كان جده رجلا مثقفا ومؤثرا وعظيما بين قومه وتعدت سمعة وتأثير الجد لتعبر الحدود إلى عواصم عربية وأوروبية.


ورغم زحام الطريق إلى آخر بيوت الجد، فإن ذاكرة الشاب قد فاضت بصور وكتب وأوراق وكثير من حكايات لا يعرفها العامة عن جده الذى اشتهر بين قومه، وكان حديثا مهما طوال حياته من القمة إلى السجن، ومن الحرية التى طالب بها إلى نضاله ضد الإنجليز، ووصولا إلى كتابته مقاله الأشهر «الجمعية السرية التى تحكم مصر».


عندما كتب جده هذا المقال لم تمضِ عقارب الساعة كعادتها، بل توقفت تماما داخل الزنزانة (91) التى حبس فيها انفراديا لأكثر من شهرين، وعندما خرج لم يعدل عن قناعاته، وكيف يعدل عن قناعاته وهو الذى كتب عنها ضد الاحتلال الإنجليزى، وضد فساد الأسلحة فى حرب 1948 وغيرها الكثير.


وصلت السيارة بصعوبة إلى موقع البيت الأخير للجد في الدنيا، غير أن الشاب وجد شيئا غريبا، كل التفاصيل تغيرت تماما، وظن للوهلة الأولى أنه أخطأ الطريق، وبينما كان الشاب حائرا وجد دليلا على أنه فى الموقع الصحيح، خفير المقابر لا يزال حيا في موقعه.

مقبرة إحسان عبد القدوس


بعد حوار من التناقض علم الشاب أن مقبرة جده قد أزيلت دون إخطار العائلة، وأن جده «إحسان عبد القدوس» الكاتب الأشهر لا يزال موجودا فى «سُرَّة» من قماش احتفظ بها الخفير حتى تظهر الأسرة وتتسلمه لدفنه فى مكان آخر.. لم ينسَ الخفير أن يذكر للحفيد أن «سُرَّة» أخرى تجمع بقايا جده «محمد عبد القدوس» أيضًا موجودة لديه.


بين الصدمة العنيفة وألغاز الاستفهامات التى أطلت على رأس الصبى لم يكن لدى الخفير أية إجابات سوى أن قرار إزالة المقبرة قد نفذ، وأنه للأمانة احتفظ ببقايا جديه حتى تظهر الأسرة وتتسلم البقايا لدفنها فى مكان آخر، بعد أن بدد الكوبرى الجديد هدوء المكان وأخذ فى طريقه ما أخذ.


حدث ذلك مع مقبرة الكاتب والأديب إحسان عبد القدوس ودون إخطار الأسرة، لم تفعل الأسرة إلا ما هو واجب عليها، أخذوا بقايا الجدين، وبحثوا عن مكان آخر تم دفنهما فيه، وبألم وشجن احتفظ الصبى بتفاصيل القصة، ولم يروها لأحد غير أن الجرح النازف لم يتوقف من حينها.

محور يثير الغضب


تذكرت تفاصيل هذه القصة، وأنا أتابع استقالات خبراء من لجنة حماية التراث احتجاجا على ما يحدث في مواقع أخرى لا تقل أهمية، سواء كونها آثارا أو نسيجا معماريا مهمًّا، أو عمارة متفردة أو مقابر حية لا تزال تستقبل الراحلين من عالم الدنيا إلى هدوء الآخرة.


الاستقالات والاحتجاجات والرفض كلها ظواهر صحية تفرض علينا إعادة تدارس الأمر، فالحياة لن تتوقف إذا لم يتم تنفيذ محور يثير الغضب، ويدفع المؤسسات الدولية إلى وضع مصر في مناطق لا تتناسب مع حضارتها وتاريخها وإنسانيتها ودورها التاريخى.


أمم حولنا تجعل من مقابر أدبائها ومفكريها وكتابها مزارات، وتحتفى بحجر قد يقل عمره عن لبنة في بيت جدى القديم، وترى في ذلك دفاعا عن التاريخ الإنسانى، فكيف ببلد مثلنا وفي مثل قيمتنا وقدْرنا أن يهمل أو يتعمد رفع لافتة الإزالة ، بكل ما تمثله من عار على مقابر لها تاريخها وتحتفظ داخلها ببقايا بشر أناروا الحياة بما قدموه.


وإذا كنا قد خطونا مشوارا مهما في مواجهة العشوائيات،وحققنا طفرات في خلق شرايين جديدة تعيد للقاهرة حيويتها وديناميكيتها فإن ذلك يفرض علينا إيقاف أي مشروع إذا ما كان اكتماله فيه جور على التاريخ واعتداء على الحضارة وإهانة للرموز.

 


إن الإصرار على المضي قدما في طريق يثير غضب العالم، وليس المصريين فقط هو إساءة لتطور حاصل على أرض الواقع، ونظن أن التوقف تماما عن استكمال هذا المحور يعفى النظام القائم من تهم نظن أن التاريخ لن ينساها ولن يغفرها، وهى بالطبع تتعدى مرحلة الخطأ إلى الخطيئة!

الجريدة الرسمية