رئيس التحرير
عصام كامل

الطبعة الأولى

أمسك الكاتب بقلمه وهو يمعن النظر في كل سطر تمر عليه عيناه، وبين الحين والآخر يكتب هامشا قد يطول أو يقصر حسبما تلقى عليه قريحته من كلمات، وما بين رشفة القهوة والأخرى يعيد قراءة السطر مرتين ثم يعدل أو لا يعدل حسبما تقتضي قناعاته.


سأله صديق: إنه كتابك فلماذا تعيد القراءة بتأن وتكتب سطورا أو كلمات، ألست أنت مؤلفه؟ رد الرجل: أنت لا تستطيع إعادة حياتك أو كتاباتها مرة أخرى، ولكنه كتابى، وتلك هى الطبعة الأولى أراها بعد أن تلقفتها أيادى القراء وقد جاءتنى ردود فعل منطقية وأخرى ذكية، وها أنا أعدل فى الطبعة الثانية حتى تصل إلى الجماهير وقد رضيت عنها تماما.


من يقف على ناصية الزمن يمكنه تعديل المسار، ومن ينصت إلى ما يقوله المحيطون قد تكون لديه فرصة التعديل والإلغاء والزيادة والنقصان حتى يكون راضيا عما سيفعله فى المستقبل، أما من لا يقف من حياته موقف الناقد لذاته وأدائه فإن حياته تضيع دون تعديل أو تصحيح للمسار.


هل يمكن للمرء أن تتاح له فرصة الحياة مرة أخرى ليعيد صياغتها، ليعيد كتابتها من جديد فيتلافى ما كان طالحا ويركز على ما كان صالحا، هل نمنح فرصة لتعديل الطبعة الحياتية الأولى؟ أم أن الفرصة ليست متاحة إلا فى قراءة صفحات التاريخ والتعلم منه؟


هل يقف السياسيون من حياتهم موقف مؤلف الطبعة الأولى؟ والتاريخ يزخر بمئات الطبعات الأولى من الأداء، وقد شهد عليهم أو شهد لهم، هل يدرك الساسة أن الحاكم الفرد لم ينجح طوال كل الطبعات الأولى والثانية والثالثة وحتى الأخيرة؟!

شعوب وأوطان تدفع الثمن


هل أدرك الملهم أنه لم يكن ملهما؟ وأن كل ما أتى به منفردًا دون استشارة أو استنارة لم يكن سوى أضاليل وأكاذيب راحت ضحيتها شعوب وضاعت أوطان وعادت بلدانهم للكتابة من أول سطر وقد دفعت أثمانًا باهظة من حياتها واستقلالها ووجودها وتكفلت أجيال بما لم تفعله أجيال أخرى؟


هل أدرك صدام حسين أنه لم يكن زعيما ملهمًا، ولم يكن نبيًّا، ولم يكن هو الحارس على وطنه وإنما ثبت أنه أضاع وطنه وشعبه ولا تزال الأمة العربية كلها تدفع ثمنًا باهظًا لمغامرات كان هو وحده دون غيره بطلها؟ هل أدرك بعد رحيله أنه كان الخنجر الذى طُعنت به بلاده؟


هل أيقن القذافى فى لحظات حياته الأخيرة أنه لم يكن كما كان يتصور واحدًا لا مثيل له؟ هل علم أن أربعين عاما من الانفراد والاستفراد وحكم الفرد لم تكن سوى ظلمة وقع فيها بلده منذ رحيله وإلى اليوم، وقد يكون إلى الغد؟ هل عرف ماذا يعنى حكم الفرد المستبد؟


هل بكى البشير على ما اقترفته يداه ضد بلاده عندما كان ولسنوات طوال يوهم العامة والخاصة أنه يوحَى إليه، وأنه الحاكم القادم من عند الله؟ هل يعرف فى مخبئه أو منفاه الآن ماذا فعلت يداه ضد السودان شعبًا ووطنًا؟ هل ندم على ما فعله بأمن بلاده وتغييب الحرية والديمقراطية والزج بوطنه فى أتون حرب لا تنتهي؟


الطبعة الأولى فى ليبيا هى ذاتها الطبعة الأولى فى ألمانيا النازية، والطبعة الأولى فى العراق هى نفسها طبعة الفاشية فى إيطاليا، والطبعة الأولى فى السودان هى نفسها الطبعة الأولى فى كل بلد ظن حاكمه أنه الأوحد وأنه نصف إله وأنه إنما جاء هنا بقرار من السماء.


أجيال تموت وأخرى تلحق بها لأن المؤلف يصر على أن الطبعة الأولى الملهمة هى الأبقى وهى الوحى القادم من السماء، شعوب تُطحن فى ماكينة الفقر لأن حكامها تصوروا وهمًا أنهم وحدهم الأوصياء على الأرض والناس والشجر والحيوان، أمم تموت كمدا وظلما وقهرا لأن حكامها تحت وطأة الخيالات والأمراض النفسية أداروا ظهورهم لمصدر السلطات (الشعب).


فى اليمن الذى كان سعيدا كان هناك حاكم فرد سلطوى ينفرد بكل شيء.. فى ليبيا وفى السودان وفى مصر ألغى مبارك إرادة الناس، ولم يترك للناس أملا فى التغيير وفى أقطار كثيرة من وطننا العربى المسحوق بخيبة الحاكم الإله، ضاعت شعوب وهلكت أوطان ولا يزال البعض يصر على عدم الاقتراب من الطبعة الوحيدة رغم ثبات فسادها.


الأمم مثل الكتب، منها من نُقح وعُدل وصُحح، ومنها من يصر على أن من أصدروا الطبعات الأولى لم يكونوا فى عبقريتهم ولم يكونوا فى مهاراتهم فيسيرون سيرا نحو نفس المنحدر.. نحو الخطر الداهم، ولم لا يصرون على تفردهم والشعوب والأوطان وحدها تدفع الثمن؟


ورغم أن هتلر لا يزال ملعونا فى التاريخ، ورغم أن موسولينى لا يزال منبوذا بين الإنسانية، ورغم أن التاريخ لم ولن يرحم صدام والبشير وعلى عبد الله صالح والقذافى وكل من كان على شاكلتهم، إلا أن ماكينة الحكم لا تزال أيضًا تفرز نفس الفرز، وتنتج ذات المنتج، وتلقى بسياطها على ظهور شعوب لم تبرح مكانها هناك فى البقعة السوداء من صفحات الأمم.

الجريدة الرسمية