رئيس التحرير
عصام كامل

فض الاعتصامات فى الإسلام.. البنا يؤكد: الإمام علي فض اعتصام "حروراء" بالقوة درءًا للفتنة.. وقاتل الخوارج لرفضهم تسليم قتلة رسوله..لم يبدأ بقتل معتصمي"حروراء".. وقضى على معظمهم بـ"النهروان"


وكأن المشهد يتكرر.. ففي كل زمان تخرج مجموعة ترفض التحكيم ولا تقبل إلا رأيها ولو بالدماء.. المرحوم جمال البنا المفكر الإسلامي كتب عن الإمام على بن أبي طالب (كرم اللّه وجهه) وتناول الخصومة السياسية في عهده.. وكشف في كتابه طريقة فض "سيدنا على" لاعتصام " حروراء" من الخوارج.


وقال البنا في كتابه: " يقدم موقف الإمام على كرم اللّه وجهه صورة فريدة في حرية معاملة الخصوم السياسيين، وليست المعارضة فحسب، لأن اللّه تعالى ابتلاه بمحن ظهور "الخوارج".. وقضية الخوارج معروفة، فقد نشأت في أعقاب حيلة "رفع المصاحف" التي تفتق عنها ذهن عمرو بن العاص كوسيلة لتفويت النصر على الإمام على بن أبي طالب في صفّين، ومكّنته بالفعل من إيقاف القتال بعد أن كان الإمام قاب قوسين من الانتصار، وقد أوضح الإمام لجنده أنّ هذه حيلة لا يراد بها وجه اللّه، فلم يستجيبوا له.

وأضاف البنا: "وقال بعض الذين أصبحوا فيما بعد من الخوارج: أجب إلى كتاب اللّه، وإلاّ دفعناك برمتك إلى القوم وفعلنا بك كما فعلنا بابن عفان، إنه غلبنا على أن يعمل بكتاب اللّه فقتلناه، واللّه لتفعلنّها أو لنفعلنّها بك".. قال الإمام على- رضي الله عنه- "فاحفظوا عنّي نهيي إيّاكم، واحفظوا مقالتكم لي، أما أنا فإن تطيعوني فقاتلوا، وإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم". فتمسكوا برأيهم وألحوا عليه في إيقاف قائد المنتصر "الأشتر" واضطر الإمام على كارهًا إلى ذلك، ومرة اُخرى فرضوا أبا موسى الأشعري حكمًا".

ويتابع البنا في كتابه:"توقف القتال ورجع الإمام على بن أبي طالب إلى الكوفة، ولكن فريقًا من جنده ممن كانوا دعاة التحكيم تبيّنوا الخطأ في ذلك، فلم يعودوا إلى الكوفة، وإنما انحازوا إلى ناحية تدعى "حروراء" فنزلوا بها وكانوا زهاء اثني عشر ألفًا وقالوا: "البيعة للّه عزّ وجلّ، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأمر شورى بعد الفتح".

ويستطرد البنا: "أرسل إليهم الإمام على بن أبي طالب ابن عباس، فناظرهم فقالوا له: "كنّا بالأمس نقاتل عمرو بن العاص، فإن كان عدلا فلم قاتلناه، وإن لم يكن عدلًا فكيف يسوغ تحكيمه؟ أنتم حكمتم الرجال في أمر معاوية بن أبي سفيان..أما كيفية فض سيدنا على بن أبي طالب اعتصام أهل حروراء، وهي منطقة خارج الكوفة اعتصم فيها ما يقرب من عشرين ألفا حافظًا لكتاب الله تعالى وسموا في ذلك الوقت (القراء) وكانوا من الزهاد والعباد".

وادعى الخوارج أن سبب اعتصامهم هو أن سيدنا على بن أبي طالب لم يطبق الشرع الشريف وحكم الرجال في قضية قتاله مع جيش الشام ولم يحكم كتاب الله، وكانت النتيجة أنهم كفروا علنًا ومن معه بل غالوا بأن من معهم هو المسلم ومن يعارضهم هو الكافر.

وكانت هناك وساطات لحل الأزمة التي ستعصف بالمجتمع المسلم، ولكن أصر اعتصام حروراء على رأيهم ووضعوا حلًا لفض اعتصامهم والاندماج مرة أخرى في المجتمع المسلم وهو حل غريب " أن يشهد على بن أبي طالب على نفسه بالكفر ثم يعلن إسلامه" فبلغ سيدنا على بما قاله المعتصمون في حروراء، فقال ماكفرت منذ أسلمت.

وكانت هناك وساطات أخرى فذهب إليهم سيدنا عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- فناظرهم في مناظرة شهيرة فرجع منهم ما يقارب الألفان.

ويقول البنا في كتابه " وبلغه- سيدنا على- أن الخوارج قد عاثوا في الأرض فسادًا وسفكوا الدماء ولقوا عبد اللّه بن خباب وهو من أبناء الصحابة قريبًا من النهروان فعرفهم بنفسه فسألوه عن أبي بكر وعمر، فأثنى خيرًا، ثمّ سألوه عن عثمان في أوّل خلافته وآخرها.. فقال كان محقًا في أوّل خلافته وآخرها.. فسألوه عن على قبل التحكيم وبعده... فقال: "هو أعلم باللّه وأشد توقيًا على دينه" فقالوا: "إنك توالي الرجال على أسمائها" ثمّ ذبحوه وبقروا بطن امرأته وكانت حاملًا، ثمّ قتلوا ثلاث نسوة من قبيلة طي.

فغضب الإمام على وبعث إليهم رسولًا لينظر فيما بلغه فقتلوه.. فقال أصحاب علىّ كيف ندع هؤلاء ونأمن غائلتهم في أموالنا وعيالنا ونذهب للشام؟.. فبعث على إليهم يقول: "ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم فنكف عنكم حتى نلقى أهل الغرب (يعني أهل الشام) لعلّ اللّه يردكم في خير.." فقالوا: كلّنا قتلهم، وكلّنا مستحل دماءهم ودماءكم!.

وأكد البنا " وأرسل إليهم الإمام على بن أبي طالب قيس بن سعد بن عبادة وأبا أيوب الأنصاري... فوعظاهم.. ثمّ جاء الإمام على وقال: " نحن على الأمر الأوّل " فقالوا: إنا كفرنا بالتحكيم.. وقد تبنا، فإن تبت أنت فنحن معك.. وإن أبيت نابذناك. فقال: "كيف أحكم على نفسي بالكفر بعد إيماني وهجرتي" فانصرف عنهم.. ولم يعد مفر من القتال.

ولكن حتى هذه اللحظة، فإن الإمام عليًا رفع لواء أبي أيوب وأمره أن يعلن أن مَن انصرف إلى المدائن أو الكوفة أو انحاز إليه فهو آمن. فاعتزل بعضهم، بل انصرف معظمهم ولم يبق إلاّ ألف.. فقال علىّ: "كفّوا عنهم" ولم يبدأ قتالا حتى أقبل الخوارج صائحين "لا حكم إلاّ للّه، الرواح إلى الجنة".

وتقول بعض الروايات أنهم هلكوا بأجمعهم "كأنما قيل لهم موتوا فماتوا..." بينما تذكر روايات اُخرى (ابن كثير في البداية والنهاية) أنه كان هناك أربعمائة من الجرحى سلمهم على إلى قبائلهم ليداووهم.. وبعد المعركة جعل الناس يقولون لعلي بن أبي طالب: "الحمد للّه يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم" فقال علىّ: "كلا واللّه إنهم لفي أصلاب الرجال.. وأرحام النساء.. فإذا خرجوا فقل ما يلقون أحدًا إلاّ ألبوا أن يظهروا عليه".

وكان عبد اللّه بن وهب الراسبي ـ أحد قادتهم ـ قد قحلت مواقع السجود منه من شدّة اجتهاده وكثرة السجود، وكان يقال له ذو البينات... وكان من بغضه عليًا يسمّيه الجاحد.. وعندما سئل على بن أبي طالب عن أهل النهروان أمشركون هم؟ قال: "من الشرك فرّوا" قيل: أمنافقون؟ قال: "إن المنافقين لا يذكرون اللّه إلاّ قليلا.." قيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال: "إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا".

ومع أن الخوارج كانوا يجبهون عليًا برأيهم فيه، وأنه قد كفر بعد إيمانه.. ويتهدّدونه بالقتل ابتغاء مرضاة اللّه! فإنه لم يرَ فيهم سوى ضالّين، مخدوعين، استحوذ عليهم الشيطان... وقال فيهم وفي معاوية كلمته المأثورة: "ليس مَن طلب الحق فأخطأه، كمَن طلب الباطل فأدركه".

أمر سيدنا على أمير المؤمنين على برفع الحالة القصوى في الجيش، والتجهز لفض هذا الاعتصام بالقوة وقتال هؤلاء المارقون، ومن العجيب أن معظم الجنود والقادة في جيش سيدنا على خافوا أن يقتلوا هؤلاء لما رأوا من شدة عبادتهم، ومن فرط زهدهم، ومن كثرة تلاوتهم لكتاب الله تعالى، وكثرة صلاتهم وقيامهم لليل، حتى صارت ركبهم كثفنات الجمل من الركوع والسجود.

لكن سيدنا على بن أبي طالب الذي أخبره الرسول الكريم بأوصاف هؤلاء قال لهم: والله ما كذبت ولا كذبت، هم الذين أخبرني رسول الله بهم، وكانت الغزوة الشهيرة التي تسمى (النهروان) والتي قضى فيها سيدنا على على الخوارج وقتل منهم العديد في يوم واحد، ولم ينج منهم إلا بضعة نفر.

ويؤكد المفكرون الإسلاميون أن فكر الخوارج لم ينته بل أخبر رسول الله أنهم سيخرجون على فترات، فعن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله يقول: يخرج من أمتي قوم يسيئون الأعمال، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ".

قال يزيد: لا أعلم إلا قال: " يحقر أحدكم عمله من عملهم، يقتلون أهل الإسلام، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، فطوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه، كلما طلع منهم قرن قطعه الله عز وجل "، فردد ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرين مرة أو أكثر.

فإذا أردنا أن نحلل موقف الفريقين، بعضهما من بعض، أي موقف الإمام على بن أبي طالب من الخوارج.. وموقف الخوارج من الإمام على، لوجدنا أنهم انحازوا إلى حروراء، ورفضوا النظام القائم واختاروا أمراء لهم، ورفضوا أمر على بن أبي طالب بالسير معه إلى الشام، وقتلوا عبد اللّه بن خباب بن الأرت، وبقروا بطن زوجته وثلاث نسوة أخريات، قتلوا رسول على بن أبي طالب الذي أرسله إليهم ليعلم حقيقة مقتل عبد اللّه بن خباب.

رفضوا تسليم قتلة عبد اللّه بن خباب وصاحوا "كلّنا قتله، وكلّنا نستحل دمه ودمك"! في مقابل هذه المواقف، نجد أن الإمام على بن أبي طالب حدّد موقفه منذ البداية: "أن لا نمنعكم مساجد اللّه أن تذكروا فيها اسمه، وأن لا نمنعكم، الفيء ما دمتم معنا، وأن لا نبدأكم بقتال" وكان هذا بعد أن انحازوا إلى حروراء وكوّنوا جيشهم واختاروا امراءهم.

وأرسل على بن أبي طالب قيس بن سعد مرة وأبا أيوب مرة اُخرى ليحملاهم على أن ينفضوا.. ونجحا في استنقاذ الكثير، قبل أن تبدأ المعركة بالفعل أعطى أبا أيوب لواء ونادي مَن انحاز إليه أو ذهب إلى الكوفة، أو ترك المعسكر فهو آمن... وبذلك لم يبق إلاّ عدد قليل.

حتى عندئذ، فقد أمر جنوده أن لا يبدؤوا بقتال حتى هجم الخوارج فردوهم وقتل معظم الخوارج، أما الجرحى فقد سلمهم إلى قبائلهم لمداواتهم، هكذا تعامل سيدنا على مع فريق متمرد على الدولة.. ففي كل خطوة اتخذها الخوارج كان الرد الطبيعي عليهم مقاتلتهم دون هوادة... ولكن على بن أبي طالب تقبل ثلاثة أوضاع لا يتصور أن يتقبلها أي حاكم من مثل الخوارج.

ولم يقاتل سيدنا على الخوارج إلا بعد أن بدئوا القتل، ورفضوا تسليم القتلة، أما لو لم يفعلوا هذا، فإن سياسة الإمام على بن أبي طالب كانت تسمح بوجودهم وتتسع لنشاط سلمي يمكن أن يقوموا به.

الجريدة الرسمية