رئيس التحرير
عصام كامل

حتى يطير الدخان!

بعد بدء الدراسة بأسابيع قليلة وتحول الجو ما بين الخريف والشتاء وما أن تظهر في الأفاق الغيوم وتتحول المنازل لمعسكر للتعليم، كنا صغار فكان التلفزيون يتم غلقه ورفعه أحيانا من المكان المخصص له حتى لا يكون مصدر إلهاء للصغار عن المذاكرة وتحصيل الدروس رغم أنه كان أبيض وأسود ويبث قناتين هما الأولى والثانية، ومع تطور الأمر وعندما أصبحت الأسرة أكثر انفتاحا كان يسمح بمشاهدة مسلسل السابعة والربع وبعض مسلسلات رمضان فشاهدنا لن أعيش في جلباب أبي وأرابيسك والمال والبنون، قبل أن تطل علينا أفلام ومسلسلات العنف والمخدرات والتي نتمنى أن نتخلص منها ويتناثر تأثيرها كما يطير الدخان.

هناك في الصعيد كنا نجمع الحطب والاخشاب لنوقدها أمام المنازل ليلا ويلتف الصبية من أبناء العائلة لنتسامر ونتبادل الحديث والحكايات، وفى المنازل كان يتم تجهيز المنقد في المغربية لتوضع به كوالح الذرة ليتم أشعالها والتدفئة بنيرانها الذهبية وأن يتم فتح درفة شباك حتى يطير الدخان.

هناك كان التجمع والتسامر والتواصل وكان أحلى شاي هو ما يتم إعداده على المنقد بعد صفاء النيران وخاصة إذا كان بجانبه خبز البتاو محمصا على نيران المنقد الصافية.

ذكريات الطفولة

كنا تلاميذ صغار في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات كنا نتشوق لأمطار الشتاء حيث اللهو واللعب تحت المطر وكان شعارنا "مطرى يا مطرة عباس...خلى حميدة تملى البلاص" ولا أدرى من عباس ومن حميدة حتى الآن! كان الضحك لا ينقطع على أحدنا الذى سقط في وحل أمطار الشتاء فقد كنا نترجل على الأقدام قرابة 3 كم للوصول للمدرسة.

عند سقوط الأمطار كانت السيدات يتوجهن على الفور أعلى سطوح المنازل لتغطية صوامع الغلال بالحصر وكان حظها سيئ تلك التي قررت أن تعد العيش الشمسى في اليوم الممطر. هناك في بلادنا كانت الكوفيات والطواقى الصوف تعتلي رؤوس الرجال في الشتاء وكانوا يحرصون على إرتداء البالطو والعبايات السوداء أو البنية وقاية من برد الشتاء. العدس والمخروطة والبصل المشوى والبصارة والسحلب كانت مواد غذائية لها وزنها في مجابهة عواصف الشتاء.

هناك الشوارع تكاد تخلو من المارة بعد العشاء وكذلك المقاهى وكان الحظ مناسبا في ليلة الخبيز حيث كانت الفرصة تسنح للتدفئة والخبيز في ذات الوقت. هناك كان الاستيقاظ فجرا خاصة في الشتاء ومازال صوت الشيخ الحذيفى يرن في مسامعي من شريط التسجيل العراقي الذي كان أهداه أحد الأقارب لنا في الثمانينات وأظن أن والدى مازال يحتفظ بهذا التسجيل إلى الان.

هناك كان التجمع وجها لوجه ومن يحتاج شخص في موضوع يذهب لمنزله ليشرب الشاي ويقص موضوعه كان الناس أكثر تقاربا وتواصلا بينما في عهد الانترنت وتطبيقات الفيس بوك وتويتر أصبح العزاء مجرد بوست والتهنئة مجرد تعليق فتمزقت الكثير من الروابط.

رغم صقيع البرد وهطول الأمطار إلا أن الكثير كان يروى الزرع ويُخرج مواشيه للحقول ليس تحديا للطبيعة ولكن لحرصه على مصدر رزقة وكثير ما ابتلى البسطاء في قوتهم عندما تأتى الأمطار والرياح على الزرع المروى حديثا. مع الشتاء تتجدد ذكريات الكثيرين وكأن الشتاء جاء لينقب في مكامن الماضى ليبعث فيها كل ما هو جميل رحم الله كل من شاركونا ذكريات الماضى ورحلوا عن عالمنا من أجداد وأعمام وجدات وأولاد عمومة وأصدقاء وزملاء، وللحديث بقية أن كان في العمر بقية.

الجريدة الرسمية