دراسة بحثية: أبو نظارة رائدة فن الكاريكاتير في مصر
يعقوب صنوع حكاية مصرية عجيبة إلى جانب كونه رائد المسرح والممثل والعازف والرسام فإنه أيضا رائد من رواد الصحافة المصرية الساخرة فكانت أول معرفتنا في مصر بصحافة الفكاهة على يد خفيف الدم يعقوب صنوع بمجلته الشهيرة "أبو نظارة زرقاء" التي أصدرها في مثل هذا اليوم عام 1878 لتشهد ميلاد الكاريكاتير في الصحافة المصرية.
ولد يعقوب صنوع عام 1839 بحى باب الشعرية بالقاهرة لأبوين يدينان باليهودية، وعاش في فترة حكم الخديو إسماعيل واقترب منه حتى أن الخديو اتخذه سامرا ومضحكا له يقول الشعر والزجل ويطلق النكات والمونولوجات الساخرة ولقبه بموليير مصر إلا أنه سرعان ما انقلب عليه ونفاه إلى باريس.
الفلتة البشرية
وصفه الكاتب عبدالله أحمد عبدالله بالفلتة البشرية المدهشة الذي يقول الشعر والزجل ويؤلف المونولوجات الساخرة ويمثل الأدوار الرئيسية، رسم الصور والرسوم التوضيحية في الصحيفة التي اختار اسمها لانه يرتدى نظارة وقصر رسوماته على النوادر والحكايات والقفشات لبعض معاصريه
أبو نضارة زرقا
أصدر يعقوب صنوع في بداياته مع الصحافة مجلات: الثرثار المصرى، البعوضة باللغة الفرنسية، النظارة باللغة الإيطالية ثم اصدر مجلة (أبو نضارة زرقا ) التي بدات اعدادها بلا رسوم وتطبع بطريقة الطبع البارز على الحجر "الليثوغراف " وهى تشبه إلى حد كبير طباعة الأوفست هذه الأيام، ونظرا لتعرضه بالنكات والسخرية لتصرفات الخديو إسماعيل فقد صودرت المجلة بعد 15 عددا فقط.
قضايا مصرية
بعد عام واحد من إغلاق أبو نظارة زرقاء وفى مثل هذا اليوم 7 أغسطس 1878 أصدر يعقوب صنوع من باريس مجلة ساخرة أيضا وموجهة إلى المصريين وتعنى بالشأن المصرى باسم (رحلة أبو نضارة زرقا من القاهرة إلى باريس) لتتضمن لأول مرة رسومات كاريكاتيرية بأسلوب يقدم الأحداث السياسية في مصر بأسلوب ساخر، ليصبح هذا اليوم هو يوم ميلاد الكاريكاتير في الصحف المصرية، صحيح أنه رسم بيد فرنسية وطبع في باريس إلا أنه رسم في مجلة مصرية أتى بها إلى مصر وانتشرت بعد ذلك.
وكان صنوع هو مبتكر الشخصيات وفكرة الرسوم التي كانت تتم بطريقة النقش على الحجر ثم طباعتها على الورق متأثرا في رسوماته بالفنان الامريكى توماس ناست والفرنسى مونريه دومييه. وكان رغم وجوده فى باريس إلا أنه كان لسان حال المصريين فى ظل أوضاعهم السيئة سواء من الحكام أو الاستعمار الإنجليزى واضطراب الأوضاع الاقتصادية، واتخذ شعار الثورة الفرنسية "الحرية والإخاء والمساواة" شعارا لمجلته .
حرص يعقوب فى اختيار رسومات مجلته على تصوير استغلال الخديو إسماعيل ـ بعد ان انقلب عليه ـ للشعب ومعاملة الفلاحين بالسخرة فابتكر شخصيات مثل: أبو الغلب، أبو شادوف، أبو قصعة، وسمى الخديو اسماعيل بشيخ الحارة وأطلق على الخديو توفيق الأهبل وفى نفس الوقت تمنى للأمير حليم الابن الأصغر لمحمد على أن يتولى الخديوية لطيبته وسعة أفقه
كتب صنوع أزجالا تتضمن ألفاظا بذيئة انتقد فيها الأوضاع فكان مبتكر تعبير (شرم برم حالى غلبان) التى استخدمها فيما بعد الزجال بيرم التونسى وصلاح جاهين وعمل من خلال مجلته على شحذ الهمم للثورة عندما تولى الخديو توفيق الحكم فكانت مساهمة في التمهيد لقيام الثوورة العرابية، ثم هاجم الاحتلال الذى كان قد تنبأ به قبل وقوعه بأعوام وحذر منه بكتاباته ورسوم مجلته الساخرة التى كان يتم تهريبها من فرنسا إلى مصر.
وفى دراسة اكاديمية اعدها الباحث عبد الله الصاوى يرد فيها على فكرة البعض ان يعقوب صنوع لايستحق ريادة الكاريكاتير المصرى لأنه لم يكن رساما للكاريكاتير، بل كان يستعين بآخرين لوضع الرسوم الهزلية على صفحات مجلته. غير أن الباحث عبد الله الصاوي يرى أن استحقاق صنوع لهذه الريادة يأتي من أسبقيته كأول من أتاح مساحة للرسوم الهزلية في الصحافة المصرية ولشخصياته التي اعتمد عليها في كتاباته الساخرة، هذه الشخصيات التي وضع ملامحها بمهارة مستعينًا بالرسوم لإيضاحها. ولا يهم هنا هل رسمها بنفسه (وهو لم يدّعِ ذلك) أو استعان بآخرين، لكن الأهمية ترجع كما يقول الصاوي إلى أسبقيته في إدخال عنصر جديد إلى الصحافة المصرية الناشئة في ذلك الوقت وهو الرسوم الكاريكاتيرية.
ويرى عبد الله الصاوي في دراسته أن مجلة "أبو نظارة" قد أرست عادة صحافية في مصر وهي احتلال الكاريكاتير للصفحة الأولى على مدى سنوات طويلة. وعلى هذا النحو يمكن القول إن "أبو نظارة" قد مهدت لتقليد صحفي ما لبث ان عاد بشكل أكثر نضجا في التأسيس الثاني للكاريكاتير في الصحافة المصرية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. وحول وصف هذه الرسوم بأنها كانت مجرد رسوم توضيحية مصاحبة لكتابات صنوع،
بداية منطقية للكاريكاتير
يرى عبد الله الصاوي أن الكاريكاتير يحمل بين معانيه فكرة المُبالغة، وهو ما كانت تتسم به هذه الرسوم في وقت لم تكن ثمة قواعد ثابتة أو تقاليد مرعية ومتوارثة في بناء وتوليد السخرية من عالم الخطوط الكاريكاتيرية. من أجل هذا يخلص الصاوي إلى أن تاريخ إصدار مجلة "أبو نظارة" هو بداية منطقية بالفعل لمسيرة الكاريكاتير في مصر، وكذلك اعتبار صنوع الرجل الذي أطلق شرارة أنارت الوجدان المصري برسومات كاريكاتيرية بلغ ذروته خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهي حقائق لا يصح إنكارها أو تجاهلها بناء على أهواء أو آراء لا تستند إلى دليل.