رئيس التحرير
عصام كامل

رحلة البحث عن دار نشر.. الهيئات الحكومية «مقبرة للأحلام».. والجوائز تنصف دور النشر الصغيرة

معرض القاهرة الدولى
معرض القاهرة الدولى للكتاب

كعادته فى كل موسم لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، يملؤه السخط والحسرة، أجلس بجواره، فيسألنى هل من الخطأ أن تُصبح كاتبًا فى بلد من نبتها خرج الأديب العربى الوحيد الحاصل على جائزة نوبل، يُدرك صديقى حقيقة أن الكتابة فى بلدنا لا تُقيم بيتا ولا تؤسس حياة، لكنه لم يرد أكثر من طبع روايته المُخزنة منذ ثلاث سنوات فى "فولدر" مل من متابعته، أن يرى اسمه على عمل استغرق فيه عامين، يسألنى أيضا، أليس من حقى أن يحكم أحد علىَّ فإن لم أكن كاتبًا أقلعت عن هذا الوهم، حتى تلك الحقيقة لم يصل إليها بعد.


يأس صديقى الذى اسميه مجازًا «يوسف»، جاء بعد أشهر انتظر فيها رد المؤسسات الحكومية المعنية بالنشر ولم يجد حتى رفضًا، ثم أشهر أخرى يحاول الوصول إلى إحدى دور النشر الكبيرة التى تعلن أنها "تدعم الشباب"، وأخفق فى أن "يرن الجرس" فضلًا عن فرصة تقديم عمله للاطلاع، أما دور النشر التى تشترط أن يدفع الكاتب ثمن طباعة عمله فقد رفضها، مفضلًا خوض المسابقات الدولية لعلها هى النجاة الوحيدة.


رحلة «يوسف» ليست الوحيدة، فآلاف الشباب يخوضونها سنويًّا، قليلون يحالفهم الحظ فى النجاة، وكثيرون يُحبطون، لتُدفن مواهب بإمكانها أن تصبح طوق نجاة فى بلد لن يحميه سوى عقوله المستنيرة، وفى هذا التحقيق خضنا الرحلة ووقفنا على تفاصيلها وعواقبها، لنعرف أي مشوار يقطعه من يريد طباعة كتابه فى القاهرة التى منحتها منظمة الإيسيكسو لقب عاصمة الثقافة الإسلامية فى 2022.

 


أكثر الشعوب قراءة فى العالم 
الهند.. 10 ساعات و42 دقيقة أسبوعيا
تايلاند.. 9 ساعات و24 دقيقة أسبوعيا
الصين.. 8 ساعات أسبوعيا
الفلبين.. 7 ساعات و36 دقيقة أسبوعيا
مصر.. 7 ساعات ونصف أسبوعيا
المصدر: المؤشر العالمى للإنجاز الثقافى 2018

تشير الأرقام السابقة إلى أننا لسنا شعبا قارئا فقط، بل متصدرا عالميًا رغم ضغوطات الحياة، ورغم أن ذلك يعنى أيضا ضرورة وجود حركة نشر قوية وفقًا لآليات العرض والطلب، لكن الحقيقة تقول إن ما يتم نشره سنويًا من كتب على كافة المستويات لا يرقى لمستوى القراءة لدى المصريين.

الصدمة الأولى
الصدمة الأولى فى رحلة البحث عن دور نشر، أنه ليس هناك إحصاء دقيق لعدد الكتب التى تصدر سنويًا فى مصر، ذلك ما أكده الناشر إبراهيم المعلم، رئيس اتحاد الناشرين العرب السابق، إذ أوضح على هامش ندوة سابقة حملت عنوان "صناعة الكتاب.. التحديات وآفاق المستقبل"، أنه لا يوجد رقم يمكن الاعتماد عليه، لكن التقديرات تشير إلى أن هناك 12 ألف عنوان فى العام بينها ألف عنوان للكتب المدرسية.


لكن تلك الأرقام تعارضت مع دراسات أخرى تناولت نفس الشأن، ففى دراسة أعدها الدكتور زين عبد الهادى، أستاذ علم المكتبات والمعلومات بكلية الآداب، جامعة حلوان، أوضح أن هناك 55 مليون نسخة من الكتب طبعت عام 2016، ناهيك عن مواقع الإنترنت التى يتم تحميل ملايين الكتب منها وهو ما لا يمكن حصره، كما كشف أن المصريين فى المرتبة الـ11 على مستوى العالم استخداما لموقع "جودريدز" الأشهر فى عالم القراءة، وتحتل القاهرة رقم 5 بين العواصم الدولية.


يرجح المنسق الثقافى، مصطفى الطيب، أن سبب تلك المشكلة يعود إلى صعوبة حصر الكتب المزورة، والتى باتت منتشرة داخل مؤسسات رسمية، أما خطورة غياب الإحصاءات الرسمية أنها لا تجعلنا نعرف المسار الصحيح، وبالتالى عدم القدرة على الاستفادة من الكتاب كصناعة إبداعية يُمكن أن تصبح رافدا اقتصاديا مهما، وهو الحاصل لأننا لا نستغل الكتاب إلا بنسبة لا تتخطى الـ10%، رغم أن مصر دولة رائدة.

المنسق الثقافي مصطفى الطيب 

الباب المغلق
نعود إلى يوسف الذى قرر التوجه للهيئات الحكومية المسئولة عن النشر، متبعًا الخطوات التى تضعها الهيئة العامة للكتاب على الموقع الرسمى الخاص بها، والتى تشمل ضرورة تسليم العمل بنسخة ورقية وحصول المتقدم على إيصال بذلك، وإعطائه رقما حتى يتم التعامل من خلاله، ثم يتم تكوين لجنة فحص مبدئى مكوَّنة من شخصيات مختلفة من العاملين بإدارة المشروعات الثقافية، ثم يعرض الكتاب مع تقارير الفحص الداخلى والخارجى على مدير عام النشر ليدخل بعد ذلك ضمن الخطة الموضوعة بعد الموافقات اللازمة.
تلك الخطوات التى اتبعها "يوسف" لم تسفر عن شيء حتى الآن، فبعد تسليم عمله لم يتلقَّ أي رد سواء بالموافقة أو الرفض، ناهيك عن اتصالات ومشاوير لا نهاية لها من أجل معرفة مصير عمله الفنى فقط.


ليس يوسف وحده، ففى شهادات كثيرة استمع إليها معد التحقيق لمبدعين ومبدعات، كان الأمر لا يختلف كثيرًا، رغم أن الهيئة العامة للكتاب أبرز المؤسسات الحكومية للنشر، وخلال معرض القاهرة الدولى للكتاب النسخة الماضية تمكنت من طرح ما تجاوز الـ500 عنوان متنوع، ومبيعات وصل حجمها إلى 2 مليون و800 ألف جنيه، كما أوضح الدكتور هيثم الحاج على، رئيس الهيئة العامة للكتاب، والذى تواصل معد التحقيق معه للرد على النقاط المثارة ولم يتلقَّ أي رد.


بالنسبة للهيئة العامة لقصور الثقافة، والتى ذهب إليها محمد إبراهيم، لطباعة أول دواوينه الشعرية، متبعًا كافة الشروط، التى تضعها الهيئة على موقعها الرسمى، والتى تتضمن بداية من تقديم نسختين "ورقيتين" من العمل، بجانب تقديم سيرة ذاتية مختصرة تضم بياناته وأعماله المطبوعة "إن وجدت"، كما أن الهيئة غير مُلزمة برد النسخ المقدمة إليها، سواء طُبع الكتاب أو لا.


وفى معرض القاهرة الدولى للكتاب 2019، تمكَّنت الهيئة العامة لقصور الثقافة من تحقيق نسبة مبيعات وصلت 86 ألفا و440 كتابا بإجمالى إيرادات 671 ألفا و305 جنيهات خلال أيام المعرض فقط.


ينتظر "إبراهيم" منذ عام ونصف دون أي نتيجة، رافضًا فى الوقت نفسه اختيار الطريق الذى يصفه هو بـ"السهل" والمتمثل فى دور النشر الصغيرة.

النشر الخاص
«دعاء ممدوح» التى تنتظر طباعة روايتها الأولى خلال الأيام المقبلة، من إحدى دور النشر الخليجية، خاضت هى الأخرى رحلة بحث، ولكن عبر طريق آخر، فقصدت مباشرة دور النشر "الكبيرة" فى مصر، والتى لا تتخطى أصابع اليد الواحدة، فتواصلت معهم من خلال منصات التواصل الاجتماعى، وبعض المعارف، وأخيرا تمكنت من تقديم عملها لأكثر من دار مع وعود بالقراءة والفحص وتلقت بعض الردود، منها الرفض لأن العمل "ضعيف" أو لا يتسق مع سياسة الدار التحريرية أو غير جاذب للقرَّاء.


وبغض النظر عن السبب الأخير، إذ يُبنى على أسس رأسمالية بحتة، لكن دعاء التى تُدرك قوة عملها لم تستسلم، وبعد ما وصفته بـالـ"تحري" عن آلية النشر فى تلك الدور، أدركت – كما زعمت- أنها مخصصة لثلاث فئات، إما كبار الكتاب، أو الذين حصلت أعمالهم على جوائز عربية ودولية، أو للأصدقاء المقربين من القائمين على الدور، دون ذلك فمن الصعب أن ينفذ إليه أحد إلا إن كان صاحب شعبية طاغية، كما حدث مؤخرًا مع أحد صنَّاع المحتوى المشهورين فى الوطن العربى.


وتوضح «دعاء» أنه فى الوقت الذى لا تشترط فيه المسابقات الدولية اسم الكاتب وتاريخه، فقط عمله، تفعل الدور المصرية ذلك، وهى التى من المفترض أن تصنع الكاتب، فلا يوجد كاتب كبيرة مرة واحدة، بل هى آلية تعتمد على الخبرات والأخطاء والناشر القوى القادر على المقاتلة من أجل تسويق كاتبه، وهذا ما يجعل الغرب حاصدًا للجوائز الدولية المرموقة.


مصطفى الطيب، المنسق الثقافى، يتفق جزئيا مع تلك الرؤية، موضحا أن دور النشر "الكبيرة" فى النهاية تريد تحقيق المعادلة بين تشجيع الكتّاب وتحقيق مبيعات لتظل مستمرة، وبالتالى فهناك جانب من الصواب فيما سبق، لكن على الجانب الآخر فخلال السنوات الأخيرة برز أكثر من كاتب شاب كانت نافذته دور النشر الكبيرة وهذا يحسب لها.


الدور "الصغيرة"
الطريق الثالث، هو دور النشر "الصغيرة"، والتى انتشرت بعد ثورة 25 يناير ووصل عددها نحو 700 دار فى 2021 بحسب اتحاد الناشرين المصريين، وأصبحت ملاذا لكثير من المبدعين، وربما لذلك نالتها سهام النقد كثيرًا باعتبارهم يطبعون لـ"كل من هب ودب"، أو لأنهم ليسوا أكثر من "دكاكين تجارية" تأخذ الأموال فقط.


تلك الصورة القاتمة، لها أسبابها المنطقية، فخالد السيد الذى حاول طبع روايته الأولى مع إحدى تلك الدور، فوجئ بتعرضه لعملية نصب، والتى تبدأ بأن الناشر يقنعه بأن ثمن ما سيدفعه هو نصف التكلفة والدار ستتحمل النصف الآخر، لكن الحقيقة أن الكاتب هو من يتكفل بطباعة العمل بالكامل.


ليس ذلك فقط، حسبما يقول خالد، فالعقود التى يتم توقيعها بين الناشر والكاتب فيها الكثير من الظلم، أولها أن الكاتب لا تتعدى نسبته الـ2.5% من الأرباح، وتلك النسبة عن سعر الجملة الذى يباع به الكتاب للمكتبات، ومع العلم أن الأخيرة تحصل على الكتب بنصف ثمنها، ناهيك عن بنود الجوائز الدولية والتى تشترط دور النشر أنه إذا حصل الكتاب على جائزة فهناك تقاسم فى الجائزة المادية، وبالطبع احتكار الكتاب لأكثر من عامين، وأحيانا بعدد الطبعات، ما يعنى أن الكتاب قد يكون رهينة الدار طوال العمر إن لم ينجز طبعاته المنصوص عليها فى العقد.


لكن تلك البنود التى يعترض عليها خالد، وافق عليها كثيرون، والنتيجة لم يحصلوا على شيء، بل إن طرق النصب -كما استمع إليها مُعد التحقيق من كثيرين- تتعدد أشكالها، خاصة فى مجال العروض، فرغبة فى "جلب الزبون" تنوعت الدعايات بين التوزيع الكبير داخل وخارج مصر، ووصولًا إلى وعود حفلات التوقيع والنشر فى كبرى الصحف والظهور فى قنوات تلفزيونية كبيرة.


لكن ما يحدث –بحسب الشهادات- أن كثيرًا من تلك العروض وهمية، فبعض دور النشر الصغيرة تكتفى بعرض الكتب فى المعارض المحلية، وبعضها يكتفى بالتوزيع فى القاهرة والجيزة والإسكندرية، وهو عكس ما يقال من أن التوزيع فى جميع أنحاء الجمهورية، أما الصحف والقنوات ففى أفضل الأحوال تُنشر أخبار فى مواقع إخبارية "بير سلم"، أو تنظيم حلقة "مدفوعة الأجر" فى القنوات التى تعمل بنظام "تأجير الهواء"، وهى حلقات يكتظ فيها 10 كتّاب بمبلغ زهيد قد لا يتعدى الألف جنيه.


تلك الحقائق –رغم فظاعتها- لا تُخفى وجها أبيض لدور النشر الصغيرة، والتى استطاعت خلال سنوات أن تُخرج جيلا من المبدعين كانت بدايتهم متواضعة، ومع الوقت تطوروا وتصدروا، بل أصبحوا ضمن كبار الكتاب، فالتحقوا بالدور الكبيرة، وهو ما دفع البعض لتوصيف تلك الدور بأنها "رياض أطفال" للكاتب.


الجوائز الدولية أيضا تدلل على ذلك، فالقائمة الطويلة لجائزة ساويرس الثقافية عام 2021، والتى تتمتع بلجنة فحص من كبار المتخصصين فى مختلف الأفرع، شملت كثيرًا من الأعمال التى أصدرتها دور نشر صغيرة مثل رواية "توأم الشعلة" للكاتب أشرف عبد الشافى والصادرة عن دار حابى للنشر، وبالتالى فليس صحيحًا أن كل ما يطبع فى دار نشر صغيرة سيئ أو ضعيف.


فى هذا السياق، يرى أيضا المنسق الثقافى مصطفى الطيب، أن هناك مشكلة فى صناعة النشر سواء كانت الدور "كبيرة" أو "صغيرة"، وهى غياب التسويق والصناعات الإبداعية، وذلك ضمن أهم أسباب عدم ازدهار النشر بالشكل الكافى الذى يليق بمصر.


أما الدور "الصغيرة" والحديث لـ"الطيب" فهم لا يحققون أرباح كبيرة، وإلا أصبحوا دور نشر "كبيرة "، بالعكس تلك الدور تقوم بدور قوى فى المشهد، فمن ناحية هم يتطورون يومًا بعض آخر، ويواكبون الاتجاهات الشبابية، وهناك أكثر من دار اتجهت الآن إلى الترجمة والكوميك والتاريخ، وهذا نتيجة معرفتهم أن القارئ لن يظل أسير نوع واحد من القراءة طول حياته.


إضافة إلى ذلك، فإن الجوائز الدولية والتى تحتوى على نقاد ولجان متخصصة بجانب حُكم القرّاء، يحصل عليها كثيرًا من الدور "الصغيرة"، وبالتالى هم يقدّمون محتوى جيدا ويتعاملون بأقل الإمكانات، وهذا يحسب لهم.

الناشر محمد إبراهيم 


الناشر محمد إبراهيم طعيمة، مدير دار حابى للنشر، يلقى الضوء أكثر، موضحا أنه علينا التفرقة بين "المطبعجي" الذى تتلخص مهمته فى طبع كتاب، والناشر الذى يحمل على عاتقه اعتماد النص الجيد ومعرفة اتجاهات السوق والتعامل مع المنفذين لإخراج العمل فى أحسن صورة ثم التوزيع.


كما أوضح "طعيمة" أن الأمر لا علاقة له بالدور الصغيرة أو الكبيرة، بل أن تُصبح رقمًا فى المعادلة، أما عن التكلفة التى يشارك فيها الكاتب فهى أفضل السُبل المتاحة، لأنه لا يستطيع أحد تحمّل الأمر بالكامل، رغم ذلك فإن كثيرًا من الأعمال التى تُطبع فى داره لا يتكلف فيها الكاتب أي شيء، وتحقق نجاحا كبيرا فى الوسط الثقافى والمسابقات الثقافية.

المسابقات
أما الطريق الأخير فهو المسابقات، دولية مثل "كتارا – الطيب صالح"، ومؤخرًا «خيرى شلبى»، والتى تشمل فئات الأعمال غير المنشورة لتكون نافذة لكتّاب كثيرين، إذ يتولى القائمون على الجائزة بعد ذلك طباعة العمل الذى يحظى فى العادة على إقبال الجماهير كونه فائزا فى مسابقة كبيرة، بجانب منحه لكاتبه ما يسمى بـ"الشرعية الأدبية".

 

نقلًا عن العدد الورقي…،

الجريدة الرسمية