رئيس التحرير
عصام كامل

زوال عصر الدهشة

حين تنتهى الدهشة تنتهى الحكمة. الدهشة هي الأم التى أنجبت الفلسفة. الدهشة ذاتها وليدة التأمل؛ فأنت حين تتأمل موقفا، وتمضي مع خطوط التقاطع فيه، والتوازي معه، وتتكشف لك نتيجة صادمة، بالابهار أو بالخزى، فإنك تكون قد خضت تجربة مر بها المكتشفون، والانبياء والفلاسفة والمفكرون.

عصرنا الحالي فقد عذرية الدهشة، لانه إنتهك كل الحجز والمحرمات وهتك الأسوار والأسرار، من الغلاف الجوى للغلاف العائلي داخل غرف النوم، وقريبا جدا جدا، سيكون كل ما في عقلي هو في عقلك، وكل ما في خواطرنا سيكون على المشاع. العلم إذن يهزم الفلسفة. يهزم الحكمة. 

 

الصدمة والدهشة

 

منتهى العلم الوشيك الذي تعيشه البشرية بجبروتها المتصاعد في الإختراع والإبتكار والتطوير، ينذر بخطر مدمر علي العقل ذاته الذي فكر ودبر، وإخترع من الأدوات.. مخلوقات ميكانيكية إليكترونية، تنافسه وتعلن العصيان عليه. مع الخراب، لن يكون جراء حرب عالمية نووية شاملة، بل سيكون بسبب ذروة التقدم، الذي تترتب عليه حتمية تاريخية، هي النكوص، ثم إعادة البدء، بخطوات أسرع فلكيا.. 

 

دورة التقدم من دورة الكون. سرعة العقل البشرى الحالي تضاعفت لتسابق، ولتستوعب كم المعلومات والبيانات الضخم المتراكم، فضلا عن تصنيفها وتحليها والتوصل الي نتائج لها.

 

هل يخسر الانسان الذي يكف عن الدهشة؟ أولا لا يكف الانسان عن الدهشة بقرار منه. هي حالة تبلد. هي حالة مسايرة. هي حالة التآلف مع الموجود. كما تعتاد رائحة عطنة. حين تدخل السينما تشم رائحة معينة. بعد قليل لا تشمها. صرت منها. حين تدخل مكانا قديما تفغمك رائحة الزمن. علي الفور تسافر حواسك مع رموز هذا المكان وتختلط معه الأزمنة. فأنت الآن في الزمكان. 

 

إذا كنت انا لا أفقد الدهشة بإرادتي، فمن افقدنيها؟ وهل أنا وحدي؟ كالأعاصير وتغيرات المناخ، تطرأ الحالة التى ليست من صنع آحاد الناس، بل من فعل ملايين الناس. مع القطيع. مع الجموع، ومهما كانت المخاطر، والعواقب، نندفع، فإذا طالعتنا حافة الهاوية وأظافر وحوافر أقدامنا تتشبث بالمربع الأخير قبيل السقوط، عادت إلينا الصدمة.. الدهشة.. إذ كنا هكذا حمقى مغفلين.

 

 

حين تخسر دهشتك، ضمن الملايين، فإن ما تخسره، هو ما خسرته البشرية.. في أعز ما لديها وهو روحها الإنسانية.. ضعفها.. عنادها.. تسامحها.. تصلبها.. تراجعها.. دموعها.. حين كنا نندهش، تطفر الدموع فرحا من روعة ما وضعنا يدنا عليه وفهمناه من أمور، حين لا نندهش، تتجمد دموعنا. انسان متجمد الدموع هو حجر. هكذا فإن زوال الدهشة يلغي آدميتنا، ويجعل تصنيفنا أقرب إلى الجماد. بلغنا ذروة التعايش مع المألوفات.. وفقدنا إذن روعة السؤال: لماذا ؟

أداة الاستفهام هذه هي سر كل التطور الرهيب الذي نعيشه.. لا تكتموها، حتى لا تقتلوا الدهشة.. استردوا ذاكرة الانبهار.

الجريدة الرسمية