رئيس التحرير
عصام كامل

المركز القومي للمشاعر (1)

وقف عبدالخالق سالم عوض السريقوسي في مفترق الطرق ينظر يمينا ويسارا، محاولا لملمة خوفه، حتى يتمكن من العبور للضفة الأخرى من الشارع الكبير الذي يتوسط العاصمة.. إنها مدينة خوفو عاصمة المملكة التي تحمل الاسم نفسه.. أهلا بكم في خوفو العظمى، وأهلا بكم في العام 2190 ميلادية. 

على الضفة الأخرى من الشارع الممتد، يقف المركز القومي للمشاعر، بناء شاهق من 113 دورا، تمثل الإدارة المركزية التي خصصتها الحكومة لتوزيع المشاعر على المواطنين..

 

قد يبدو الأمر بالنسبة لكم غريبا، لكن في العام 2190 ميلاية، حيث أعيش أنا، تعد المشاعر عملة نادرة، فالناس هنا لا يمكنهم استخدام أية مشاعر سوى الخوف.. نعم هنا يمكنك أن تخاف كما تشاء أو كما لا تشاء، فالأمر ليس رفاهية بل قدر يجب عليك كمواطن في مملكة خوفو أن تستهلك الخوف في كل يوم وكل لحظة، لكن لا تخف فالخوف هنا مجاني مهما كانت الكمية التي استهلكتها..

 

يمكنك الخوف بسبب أو دون سبب.. يمكنك الخوف نهارا وصباحا، وأنت مستيقظ وكذلك وأنت نائم تحلم.. تحلم؟! لا عذرا فهذه المملكة ليست أرضا للأحلام، فقط يمكنك أن تستمتع بكابوس ليلي ممتد..

كان عبدالخالق سالم عوض السريقوسي، يريد أن يذهب إلى المركز القومي للمشاعر، من أجل الحصول على بعض الفرحة له ولعدد 7 من أقاربه، لزوم حفل زفاف ابنته «سهر»، التي ستتزوج من ابن عمها «ساهر» بعد أسبوع من وقوف الرجل في مفترق الطرق..

 

تقول القوانين في مملكة خوفو إن المواطن من حقه الحصول على قدر من مشاعر الفرح تكفي لنحو نصف ساعة في حال إقدامه على الزواج أو تزويج أحد أبنائه، كما  يحق له الحصول على قدر مماثل من مشاعر الفرح لعدد سبعة أفراد على الأكثر، وهو العدد المسموح به لحضور حفل زفاف..

 

قبل أن يخرج السريقوسي من بيته هذا الصباح، قالت له «سهر» إن الأمر لا يستدعي المخاطرة بالذهاب إلى العاصمة، بغية الحصول على مشاعر الفرح الخاصة بحفل الزفاف، مقترحة عليه أن تتزوج من ابن عمها في جو حزين معتاد، بدلا من الدخول في مغامرة لا أحد يعلم مآلها، لكنه مثل كل الآباء كان مستعدا أن يضحي بحياته من أجل أن يرى في عيني ابنته الوحيدة فرحة في يوم زفافها..

 

مشاعر الفرح

 

بعد نحو ساعة من المناورات والكر والفر الممزوجة بالخوف، نجح السريقوسي في عبور الطريق، ليجد نفسه أمام بوابة إلكترونية يخرج منها شعاع ليزر ليفحصه، فظهرت فوق رأسه هالة من الإلكترونات تظهر البيانات التالية: الاسم: عبدالخالق سالم عوض السريقوسي- السن: 59 عاما – المهنة: أمين مخازن مصلحة الرقابة على الأحذية الجلدية – العنوان: 7 شارع القلق، مدينة التوتر – الحالة الاجتماعية: متزوج من صالحة عبدالجواد التربي، ويعول ابنة وحيدة هي سهر عبدالخالق السريقوسي- التصنيف الأمني: مواطن مسالم صالح للاستهلاك الحكومي.

 

لحظات، وانفتحت البوابة، ليمر السريقوسي إلى الداخل، وهو لا يرى شيئا، فالظلام كان منتشرا في الأرجاء، وبالكاد تمكن الرجل الذي يزحف عمره نحو الستين أن ينقل قدمه خطوة خطوة حتى اصطدم بشيء غريب، تبين بعد ذلك أنه أحد الحراس، الذي اقتاده إلى غرفة شبه خاوية لا شيء فيها سوى صف من المقاعد المعدنية..

 

جلس السريقوسي على أحد المقاعد، فيما كان الخوف يجتاحه، وهو يرى بصعوبة ذلك الحارس يخرج ويغلق باب الغرفة من خلفه..

 

مرت دقائق ثم ساعات، والرجل جالس كتمثال، يخشى إن تحرك أن يثير غضب أحد ممن يراقبونه، فرغم أنه لا يرى شيئا ولا أحدا، إلا أنه من المؤكد أن هناك شخصا أو ربما مجموعة أشخاص يراقبونه...

 

شعر السريقوسي بحركة في أمعائه، وباغتته رغبة في خروج ريح محتبسة في بطنه، لكنه خشي إن فعل ذلك قد يتعرض إلى عقوبة.. عقوبة شديدة، هو لا يعرف من سيعاقبه وما العقوبة لكنه متيقن تماما من أنها لابد وأن تكون عقوبة شديدة، فاضطر إلى التزام أعلى درجات ضبط النفس، ممنيا نفسه أن يدخل عليه أحدهم ليذهب به إلى أي مكان ليقابل أي مسئول في هذه البناية حتى يقدم له طلب الحصول على مقدار من مشاعر «الفرح» لإقامة زفاف ابنته الوحيدة.

 

لا جديد، المزيد من الوقت مر لكن أحدا لم يأت، وظل الرجل حبيسا في الغرفة في الانتظار، لكنه حتى لم يكن يعلم في انتظار ماذا، فالمكان مغلف بالظلام والسكون، حتى عقله توقف عن تخيل السيناريو الذي سيحدث، فأسلم الرجل نفسه إلى النعاس، وغاص في النوم، وما هي إلا دقائق قليلة حتى راح يشخر، بينما أنفاسه تتقطع، ويبدو أنه كان يحلم، أو لنكن أكثر دقة، فقد كان الرجل متورطا في كابوس مخيف.. كالعادة.

 

رحلة السقوط

 

في منامه، رأي السريقوسي نفسه يمشي على حافة جدار مرتفع للغاية، حتى أنه حين نظر لأسفل لم يرى أرضا، فقط سوادا عظيما يشي بأن العمق أبعد مما يتخيل، وكان لزاما عليه أن يمر من فوق ذلك الجدار حتى يصل إلى الجهة الأخرى، وهو لا يعرف لماذا يجب عليه ذلك، لكن قوة داخله كانت تجبره على السير، فراح يخطو خطوة تلو الأخرى، والرعب ينتشر في كل خلية من جسده، خشية أن يسقط في المجهول..

 

واصل الرجل الذي شارف على الستين من عمره السير فوق الجدار، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فالمغامرة في هذا الكابوس أكبر من ذلك، إذ أن بعض الأفاعي الضخمة كانت تخرج من أسفل الجدار محاولة الإمساك بالرجل وابتلاع دماغه، لكنه كان يراوغها كما يراوغ مخاوفه، بل إنه أحيانا كان يستخدم قبضة يده ليضرب عنق هذه الأفعى أو تلك ليتخلص منها، لكن العجيب في الأمر أنه كلما نجح في القضاء على أفعى بقطع رأسه أو تحطيمه، كان ذيلها يتلوى حتى ينبت له رأسان جديدان، فيصبح أفعى مزدوجة الرأس، تعاود مطاردة السريقوسي، الذي زلت قدماه أكثر من مرة وكاد يسقط لولا تشبثه بالجدار بيديه اللتين كانتا قادرتين على خمش صخور الجدار.

 

سار الرجل لمسافة كبيرة فوق الجدار حتى كاد يصل إلى نهايته، لكنه – وقبل خطوات بسيطة من النهاية، وكما يحدث في كل الحكايات والأساطير، فقد توازنه بسبب أفعى كبيرة اقتربت منه وكادت تلتهم رأسه الأصلع، فزلت قدماه وسقط من فوق الجدار، وراح يسبح في الفراغ وسط الظلام، وكلما اقترب من الأرض تبين له أن هناك الكثير من الحيوانات الضخمة ذات الأنياب التي تشبه نصل السيف تنظره في القاع وهي فاغرة أفواهها لتلتقطه كي تسد به جوعها..

 

 

واصل السريقوسي السقوط، بينما الخوف يلتهم آخر ما تبقى لديه من قوة، وعلم أنها النهاية لا محالة، فأغمض عينيه مستسلما لمصيره، وقبل أمتار قليلة من الأرض سمع شيئا داخله يقول له: «افتح عينيك، فإن كان قدرك هو الموت، فلترى أين ستموت وكيف ستموت، واجه الموت بعينين مفتوحتين، فشرف الرجل أن يموت مفتوح العينين».

استجاب الرجل للصوت الصادر من داخله، وفتح عينيه وفرد ذراعيه مستقبلا الموت، غير أنه وقبل أن يرتطم بالأرض، استيقظ من نومه على صوت ذلك الحارس وهو ينادي اسمه: «عبدالخالق سالم عوض السريقوسي»، فرد بشكل آلي «أفندم».

الجريدة الرسمية