رئيس التحرير
عصام كامل

السيرة الذاتية لبيت جدي

مغرم أنا بفكرة البيت العامر بأهله، والذي يجمع أكثر من جيل في مكان واحد، أجداد وآباء وأبناء وأحفاد، في مثل هذه البيوت كان الإنسان ينضج على مهل، ينهل من المحبة، ويتشرب بالأصول، ويعرف قيمة ومعنى صلة الدم، ويختبر بنفسه معاني مثل الأخوة والتكافل والتراحم.. لو قدر لي أن أكون شيئا سأكون بيتا.


البيت رتبة
لا يمكنك أن تطلق لقب «بيت» على أي مكان تعيش فيه، فهو لا يصير بيتا – أو بيتك بالأحرى – إلا إذا تزوجت فيه وأنجبت، ثم ذات صباح توقظك امرأتك لتخبرك أنه يتعين عليك اليوم أن ترمم الجدار أو أن تعيد طلاء المنضدة، وبينما تقوم بمهمتك، تصطدم برأسك الكرة التي ركلها طفلك، فتصرخ أنت لتكف ابنتك ذات السبعة أعوام عن مطاردة الأوز في الفناء..

والبيت رتبة، لا تُمنح للأماكن، لكنها تكتسب، حين تتحول المباني إلى جزء من العائلة، بل يكون البيت هو الجد الأكبر، الذي ينتسب له من يسكنه، لهذا يقولون إن فلانا ينتمي لبيت «فلان»..

أما قطع الأثاث فهي من أفراد العائلة، شريطة أن تكون مخلوقة من الخشب الطبيعي، فهذه المنضدة التي كنت تعيد طلائها قبل قليل، ليست سوى عمة كريمة تمد يديها دوما بالخبز الساخن للعابرين..

ولكل بيت سيرة ذاتية، تبدأ بشهادة ميلاد خطتها الفأس التي قضمت أول حفنة من الأرض، ولا تنتهي بسقوط الدار، فالبيوت لا تتحلل أجسادها إن هي هُدمت، بل تبعث من جديد حين تلتئم الأطلال لتشكل جسدا جديدا تحل فيه الروح القديمة للبيت، ليبدأ حياة جديدة في سلسلة لا تنتهي.

معاطف فارغة
كنت أمشي ليلا في الشارع المعتم، حين رأيت معطفا فارغا يسير إلى جواري ففركت عيني كي أتأكد من صدق ما أرى، ثم سرعان ما تزايد عدد الملابس الفارغة التي تمر إلى جواري دون أن يكون داخلها أحد.. سمعت الكلاب تنبح بشكل هستيري فأيقنت أن هناك أمرًا مخيفا يحدث ، فأسرعت عائدا إلى البيت كي ارتمي في حضن أمي، غير أن البيت كان خاليا من أهلي فقط ملابس فارغة تتحرك هنا أو تجلس هناك تشاهد التلفزيون وأخرى تحدث ضجيجا في المطبخ، أما القط الصغير فكان يموء بانزعاج ورهبة..

دخلت غرفتي وأغلقت الباب بالمفتاح، وبعد لحظات انقطع النور وشعرت بأقدام تقترب، فمددت يدي لأفتح درجا به شمعة وعلبة كبريت لأبدد الظلام المحيط بي، وحين بزغ الضوء رأيت على الطاولة الممتدة أمامي ورقة خضراء معنونة بشهادة وفاة وفي خانة المتوفي قرأت .. اسمي.

كتاب ولعنة 
تحتفظ جدتي بكتاب مؤلف من سبعة آلاف صفحة، نُقشت كلماته على ورق شجرة لا تنبت إلا في الجحيم، فروعها أفاعي سامة وأغصانها من لهب. تقول الجدة إن الكتاب الذي تخبئه في صندوق داخل صندوق داخل صندوق، كتبه جني هارب من مملكة مشيدة على الأرض السابعة.

ذلك الكتاب وجده جدي في أرض لم تر الشمس يوما، فأحضره إلى البيت وراح يقرأ فيه، فجذبه الجني الذي كان يسكن بين السطور، ومنذ ذلك وجدتي تنتظر كل ليلة عودة رجلها الغائب بين دفتي المخطوط السحري.

تقول الأسطورة، كما ترويها جدتي، إن من يبتلعه الكتاب مفقود لا محالة، إلا في حالة واحدة وهي أن يتمكن أحدهم من حل اللغز السابع عشر الموجود بالصفحة المئة بعد الألف الثالثة، شريطة أن يحل ذلك اللغز أحد أحفاد الرجل الغائب، وذلك يعني أنني المنشود فليس لجدي أبناء سوى أبي وليس لأبي أبناء سواي أنا.

قد يبدو الأمر محلولا، فكل ما علي هو أن اجتهد في حل اللغز لأعيد جدي الملعون إلى عالمنا، لكن الأمر ليس كذلك، فهناك شرط آخر لا يمكنني تجاوزه وهو أن اكتب حل اللغز بدماء ساخنة من قلب جدتي بأن أغرس فيه ريشة من طائر أزرق لم تلمس مخالبه الأرض يوما وأكتب به الإجابة على ورق من ألياف نبتة لم تروى بماء قط. ترى هل يحق لي أن اقتل جدتي لإنقاذ جدي، أم اتخلى عنه؟! اليوم فقط تأكدت أنني الملعون وليس جدي.. اليوم فقط تأكدت أن بعض الاختيار لعنة.
الجريدة الرسمية