رئيس التحرير
عصام كامل

جِرَاح الشيخ جراح (1)

يحكى أنه من قديم الزمان وسالف العصر والآوان، وفي مدينة القدس عام 1170 م تقريبا، ولد لأسرة عربية ثرية ابن هو حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي، ولما كان هذا الابن قرة عين والديه؛ لأنه جاء على شوق بعد أن كاد الأبوان ييأسا من الإنجاب، كان محل الاهتمام والتدليل والحب العميق الذي كان دافعا لأن يتعلم هذا الطفل منذ الصغر القراءة والكتابة والآداب والعلوم حتى برع في ذلك، وقرر الشاب حسام أن يتعلم فنون الطب فدرس على يد أعظم علماء الطب في زمانه في مصر والشام، ولمع صيته في مصر حيث تفوق في مجال الجراحة وصار المقدم على علماء هذا الميدان..


أخذ حسام الدين لقب شيخ الطائفة الجراحية على عادة ذلك الزمان، مثل شيخ التجار وشيخ البنائيين وشيخ الصناع الخ، فكان لقبه الشيخ الجرّاح، وفي ذلك الزمان كانت صولات وجولات البطل الملك الناصر أبو المظفر صلاح الدين والدنيا يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدُويني التكريتي  المشهور بلقب صلاح الدين الأيوبي، الذي أسس الدولة الأيوبية التي وحدت مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن في ظل الراية العباسية، بعد أن قضى على الخلافة الفاطمية التي استمرت 262 سنة.

صداقة الجراح وصلاح الدين
وقد قاد صلاح الدين عدّة حملات ومعارك ضد الفرنجة وغيرهم من الصليبيين الأوروبيين في سبيل استعادة الأراضي المقدسة التي كان الصليبيون قد استولوا عليها في أواخر القرن الحادي عشر، وقد تمكن في نهاية المطاف من استعادة معظم أراضي فلسطين ولبنان بما فيها مدينة القدس موطن الشيخ الجرّاح، بعد أن هزم جيش بيت المقدس هزيمة منكرة في معركة حطين.

ولما كان جيش صلاح الدين في حاجة ماسة إلى كل الاطباء والبارزين في الطب، فكان من الطبيعي بعد ذيوع شهرة حسام الدين ان يستعين به قادة جيش صلاح الدين في مداواة الجرحى والمتألمين، وبالفعل أثبت حسام الدين كفاءة منقطعة النظير في ذلك؛ مما جعل صلاح الدين يقربه منه خاصة أن صلاح الدين كان عالما في مجال الطب، ويعرف سر تركيب بعض الأدوية، ويتميز هو ذاته في مجال الجراحة، فاستطاع أن يقيِّم حسام الدين ويعجب به ويجعله أميرا معه بالجيش وطبيبه مع جيشه، فكان كثيرا ما يتسامران في شؤون الطب والجراحة، ويتحدثا حول ضرورة إجلاء الفرنج والصليبيين عن القدس التي هي عشق حسام الدين.

وكثيرا ما صار التنافس بين صلاح الدين وحسام الدين من خلال إجراء بعض الجراحات لبعض الجنود، فكان أحيانا يترك صلاح الدين حسام ليقوم بإجراء جراحة لجندي، ويقوم هو بإجراء جراحة مماثلة لآخر؛ لتكون النتيجة متقاربة إلى حد كبير، وإن تميز حسام الدين بمهارة قطب الجراح وسرعة الجراحة ودقتها.

الشيخ جراح والحشاشين

وقد أشار حسام الدين على صلاح الدين بضرورة القضاء على خطر طائفة الحشاشين بقيادة شيخ الجبل رشيد الدين سنان بن سليمان بن محمود - وقد أسس هذه الطائفة حسن الصباح ورفاقه لنشر المذهب الإسماعيلي في إيران، اعتمادا على استراتيجية عسكرية مختلفة عن تلك السائدة في العصور الوسطى، وتمثلت هذه الإستراتيجية في الاغتيال الانتقائي للشخصيات البارزة في دول الأعداء، بدلا من الخوض في المعارك التقليدية التي تؤدي إلى ايقاع آلاف القتلى من الجانبين..

ولأجل ذلك أسس حسن الصباح فرقة متكونة من أكثر المخلصين للعقيدة الإسماعيلية وسماها ب"الفدائيين"، وهو المنهج نفسه الذي أخذه عنه مؤسس جماعة الإخوان الإرهابيين المسمى حسن البنا الماسوني، والذي نفذ كل تعاليم حسن الصباح من خداع أصحابه باسم الدين، والسيطرة عليهم سيطرة عميقة، وجعلهم يشعرون أنهم جماعة مميزة عن كل المسلمين، ومن لم يلتحق بها فهو في النار..

كما أسس البنا التنظيم الخاص على نهج حسن الصباح، ومن أهم أدوار ذلك التنظيم الاغتيالات التي يريدها حسن البنا/ الصباح، واتخذ البنا من اسم الفدائيين الذي أطلقه الصباح على اتباعه في نظام الاغتيالات إسما لمجموعة من جماعته في التنظيم السري أو الخاص بقيادة عبد الرحمن السندي – وقد كان استفحل خطر الحشاشين وبدا تحالفهم مع الصليبيين، وكان الحشاشون يمتنعون في سلسلة من القلاع والحصون في عدد من المواقع المشرفة الشاهقة في جبال النصيرية، ولمّا عزم صلاح الدين على إبادة طائفتهم وكسر شوكتهم، أرسل بعض الفرق العسكرية إلى جبالهم، وأعاد ما تبقى من جنود إلى مصر، وتولّى صلاح الدين قيادة الجيش بنفسه، وضرب الحصار على جميع قلاع الحشاشين خلال شهر أغسطس من عام 1176م، لكنه لم يتمكن من فتح أي منها.

الصلح مع الحشاشين
وظل صلاح الدين محاصرا لهم مستشيرا حسام الدين وقواته في كيفية التخلص منهم، لكن حدث موقف جعل صلاح الدين ينسحب من ذلك الحصار ويتفق مع زعيمهم على شروط للصلح، وكان الفدائيون مدربين بشكل احترافي على فنون التنكر والفروسية واللسانيات والإستراتجيات والقتل، وكان أكثر ما يميزهم هو استعدادهم للموت في سبيل تحقيق هدفهم، وكان على الفدائيون الاندماج في جيش الخصم أو البلاط الحاكم بحيث يتمكنوا من الوصول لأماكن استراتيجية تمكنهم من تنفيذ المهمات المنوطة بهم، وهي نفس سياسة جماعة الإخوان الإرهابيين التي علمهم إياها حسن البنا..

ويذكر المؤرخ كمال الدين بن العديم أن زعيم الحشاشين سنان راشد الدين في سورية أرسل مبعوثا إلى صلاح الدين الايوبي وأمره أن يسلم رسالته إليه دون حضور أحد، فأمر صلاح الدين بتفتيشه، وعندما لم يجدوا معه شيئا خطيرا أمر صلاح الدين بالمجلس فانفض، ولم يعد ثمة سوى عدد قليل من الناس، وأمر المبعوث ان يأتي برسالته، ولكن المبعوث قال: "امرني سيدي ألا أقدم الرسالة إلا في عدم حضور أحد"، فأمر صلاح الدين بإخلاء القاعة تماما إلا من اثنين من المماليك يقفان عند رأسه وقال: "ائت برسالتك"، ولكن المبعوث أجاب "لقد أمرت بالا أقدم الرسالة في حضور أحد على الإطلاق"، فقال صلاح الدين:"هذان المملوكان لايفترقان عني، فإذا أردت فقدم رسالتك وإلا فارحل" فقال المبعوث: "لماذا لا تصرف هذين الاثنين كما صرفت الآخرين؟" فأجاب صلاح الدين:" انني اعتبرهما في منزلة أبنائي وهم وأنا واحد"..

عندئذ التفت المبعوث إلى المملوكين وسألهما:" إذا امرتكما باسم سيدي أن تقتلا هذا السلطان فهل تفعلان؟" فردا قائلين 'نعم'، وجردا سيفهما وقالا: "امرنا بما شئت"، فدهش السلطان صلاح الدين وغادر المبعوث المكان وأخذ معه المملوكين. فطلب من جنوده أن يراسلوهم كي يُبرم حلفًا معهم، فيكون بهذا قد حقق انتصارًا آخر، ألا وهو حرمان الصليبيين من حليف مهم.
للحديث بقية
الجريدة الرسمية