رئيس التحرير
عصام كامل

البطل الفدائي جلال عبده هاشم: هزمنا سلاح الإنجليز بالخديعة والمواجهة.. و«الإلهاء» خطتنا لكسر غرور الإسرائيليين (حوار)

الصحفية نجوى يوسف
الصحفية نجوى يوسف خلال الحوار مع البطل الفدائى الفنان جلال
صممت تمثال «النصر» من شظايا الصواريخ المصرية التى دمرنا بها خط بارليف المنيع وأحلم يتنفيذ «هرم مخلفات الحروب»

البطل «سيد» الشهيد الأخير فى الإسماعيلية.. وقدم حياته فداء للمدينة الباسلة

محلات والدى محلاته ومنزله كانا مكانا لتجمع الفدائيين الذين يقومون بعمليات انتحارية ضد الاستعمار الإنجليزى

أهالي الإسماعيلية كانوا يتمنون أن يدخل الإسرائيليون المدينة

أعمالى الفنية جميعها أستوحيتها من الحروب وأول عمل فنى قدمته كان تمثال «الصمود» صنعته من شظايا القنابل والصواريخ

أحد الجنود الإسرائيليين قال لنا بالعربية «عبد الناصر مات .. الدنيا كلها كانت تخاف منه وتعمل له ألف حساب»

البطل الفدائى جلال عبده هاشم، اسم لا يزال محفورًا فى ذاكرة «المقاومة الشعبية»، وتحديدًا فى محافظة الإسماعيلية، لا سيما أنه كان شاهد عيان على العديد من الأحداث التى مرت بـ«المدينة الباسلة»، بدءًا من أيام الاحتلال الإنجليزى ومعركة «الشرطة» الشهيرة فى بداية عام 1952، ومرورًا بـ«نكسة 67» وصولًا إلى انتصارات أكتوبر 73.

«فيتو» حاورت الفدائى البطل فى منزله وسط مدينة الإسماعيلية القديمة، وسط عائلته وأحفاده، وما بين حديث «ذكريات الحرب»، والأعمال الفنية التى قدمها البطل «جلال» دار الحوار التالى:
 
*فدائى.. بطل.. وفنان.. حدثنا عن «الثلاثية» الغريبة التى أصبحت عليها حياتك؟

بداية.. أريد أن أشير إلى أن كلمة «فدائي» اكتسبتها من حبى لبلدى ورؤية الفدائيين العظماء الذين تصدوا للاستعمار دون خوف، وأنا من مواليد 25 يناير 1941 بمدينة الإسماعيلية كان والدى تاجر أثاث معروف ولديه محال فى وسط المدينة، وهو أول شخص تعلمت على يديه معنى الوطنية فكان محلاته ومنزله مكان لتجمع الفدائيين الذين يدافعون عن مدينة الإسماعيلية.

ويقومون بعمليات انتحارية ضد الاستعمار الإنجليزى، وكنت أجلس مع والدى وأستمع إلى القصص التى يقولونها عن مقاومة الاحتلال، كما أن والدى كان يساهم هو وبقية أصدقائه من تجار المدينة فى إمداد الفدائيين بالسلاح والذخيرة واحتياجاتهم كافة.

*صف لنا شعورك وأنت تشاهد والدك والفدائيين يدافعون عن الإسماعيلية؟

الإسماعيلية منذ لحظة ميلادها بعد حفر قناة السويس وهى مطمع لكل محتل لوجود مبنى الهيئة، وأيضا لعبور المجرى المائى فيها، ومنذ طفولتى لدى ميول وطنية، وعندما كنت أشاهد أحد الفدائيين يمر حاملًا سلاحه من أمام المدرسة كنت أقفز من على السور وأمشى وراءه وأحاول لمس البندقية لأنها بالنسبة لى رمز، فهى قتلت أحد جنود الإنجليز الذين يحتلون بلدى، ومن أهم الفدائيين الذين أتذكرهم حتى الآن وكانوا بمثابة المثل الأعلى لى : غريب تومى، ومحمود الكينج، والباشا، وعبد الحكيم، هذه أسماء أعظم فدائيين رأيتهم وسمعت منهم عندما كنت صغيرًا.

*هل تذكر تفاصيل معركة قوات الشرطة المصرية مع الإنجليز عام 52 التى حدثت على أرض الإسماعيلية وأصبحت فيما بعد يومًا للاحتفال بـ«عيد الشرطة»؟

هذا التاريخ محفور فى ذاكرتى، فقبله كانت مدينة الإسماعيلية شبه هادئة سوى من بعض العمليات البسيطة مثل قتل الفدائيين لأحد الضباط أو الجنود الإنجليز، أو الاستيلاء على بعض الأسلحة منهم، أو السلع التموينية، وكان المدينة تضم العديد من الجنسيات مثل اليونانيين والإنجليز والفرنسيين.

وتحديدا فى 16 أكتوبر 1951 بدأ التصعيد والمشكلات عندما اندلعت مظاهرة كبرى لعمال السكة الحديد وبعض الطلاب فى الشوارع، وأحرقوا على إثرها مبنى «النافي» وهو مخزن السلع التموينية لجنود الاحتلال الإنجليزى الموجودين بمنطقة القناة، وبدأت المناوشات تزيد حتى طلب الإنجليز من الشرطة إخلاء مبنى المحافظة والأقسام.

وهذا اليوم محفور فى ذاكرتى لأنه ذكرى عيد ميلادى الحادى عشر، وفى هذا اليوم رأينا الدبابات الإنجليزية وكثير من الجنود متجهين إلى مبنى المحافظة وحاولوا إخلاء المبنى بمكبرات الصوت والتهديد، لكن الجنود المصريين دافعوا بكل قوة عن المبنى ورفضوا إخلاءه، بعدها سمعنا إطلاق النار، وبعد ساعات ذهبنا لنرى المجزرة التى قام بها الإنجليز تجاه الجنود والضباط الذين كانوا متواجدين وقتها داخل المكان، وكانت المعركة غير متكافئة فالقوات البريطانية كان عددها 7000 آلاف جندى ضد 880 مصرى، استشهد منهم 50 شهيدًا 80 جريحًا، و13 قتيلًا من الإنجليز و22 جريحًا فقط.

وجسدت الشرطة المصرية خلال المعركة أروع مشاهد البطولة فى التاريخ للدفاع عن الأرض، وأذكر أننى ذهبت مع أشقائى ووالدى إلى هناك للمساعدة فى عمليات الإنقاذ، وكانت سيارات الإسعاف تنقل الجرحى والجثث ملقاة، ولا أستطيع وصف المشهد، لكن كل ما يمكننى قوله إنه كان يكشف وحشية الاستعمار أمام فدائية أبناء الشرطة البواسل المخلصين للأرض، وحافظوا عنها بكل قوتهم رغم تسليحهم البدائى أمام المدافع الإنجليزية.

بعد أشهر قليلة من هذه المعركة اندلعت ثورة 23 يوليو 1952، لتبدأ الإسماعيلية مرحلة جديدة من العمليات الفدائية، والتحقت مع أشقائى بمنظمة الشباب بالإسماعيلية لنعاون فى مقاومة الاحتلال البريطانى وجلائه عن مصر.

*ما أهم الأعمال التى كان ينفذها الفدائيون فى الإسماعيلية؟

يمكن القول إن الفدائيين كانوا صداعًا فى رأس الاستعمار البريطانى حتى أن البريطانيين كانوا يخترعون أشياء مضادة، فمثلا كان يستهدف الفدائيون بعض جنود الاحتلال وضربهم لأخذ السلاح منهم على الدراجات، فاخترعوا مقدمة للدرجات تمنع الفدائيين من الإيقاع بهم، بالإضافة إلى المشى فى جماعات سواء فى تنقلاتهم الداخلية أو من خلال الانتقال من معسكر إلى معسكر ثانٍ.

وكان الفدائيون ينصبون كمائن للجنود خارج المناطق السكنية والحصول منهم على الذخيرة والسلاح وتعطيل الأرتال العسكرية، لكن فى الصباح كان جيش الاحتلال يبحث عنهم فى كل مكان دون جدوى، فكنا نخبئهم فى أماكن لا تخطر على عقل جنود الاحتلال، وكنا ننظم ورديات حراسة فى الشوارع وأمام المبانى المهمة ونحمل السلاح خوفا من تعدى جنود الاحتلال على الممتلكات حتى تم جلاؤهم عن الإسماعيلية، والتى تركوها وراءهم خرابًا.

*بعد جلاء الإنجليز عن مصر.. وحدوث نكسة 67.. كيف كانت الأوضاع فى المدينة الباسلة؟

بعد نكسة 67 الموضوع اختلف تمامًا، لأن الاحتلال الإسرائيلى تحصن فى سيناء ولم يصل إلى الإسماعيلية، وكانوا يستهدفون ويضربون الأبرياء والمستشفيات وكان العدو الإسرائيلى يقوم بعمل استطلاع بعدها تبدأ الغارات على المدينة، وكنا نحاول تحصين الأهالي فى المخابئ وبعد كل غارة يلقى على المدينة قنابل خداعية مثل علب سجائر فاخرة أو أقلام بداخلها قنابل موقوتة تنفجر بمجرد لمسها.

فى الحقيقة أهالي الإسماعيلية كانوا يتمنون أن يدخل الإسرائيليون المدينة، وكنا مستعدين للقتال جنبا إلى جنب مع أبطال القوات المسلحة، وأقسمنا على تلقينهم درسًا قاسيًا ردا على اعتدائهم الوحشى على المدنيين طوال 6 سنوات احتلالهم لسيناء، لكن للأسف كانوا على الضفة الشرقية للقناة لا يبعدنا عنهم سوى 60 أو 70 مترًا هى عرض القناة، لكننا كنا نذهب ليلًا فى الأماكن التى نراهم منها وتنشب بيننا معارك كلامية فقط.

*هل هناك مواقف معينة تتذكرها عن هذه الفترة؟

من المواقف التى لن أنساها أبدا بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر كنت وبعض زملائى على الشاطئ فى مهمة، ووجدت أحد الجنود الإسرائيليين يتحدث العربية، وقال موجهًا كلامه إلينا «عبد الناصر مات»، فما كان منا إلا أن دخلنا معه فى مشادة كلامية، فقال لنا: «المفروض تبكوا بدل الدموع دم فأنتم يا مصريين مش عارفين قيمه الراجل اللى مات، الدنيا كلها كانت تخاف منه وتعمل له ألف حساب».

*ماذا عن أهم الاختراقات الإسرائيلية لمدينة الإسماعيلية والتى شاهدتها بحكم إقامتك فى المدينة؟

أبشع حادث كان قطار الركاب.. للأسف اليهود بعد احتلال سيناء كانوا ينتقمون من المدنيين بضرب الأهداف المدنية فى الإسماعيلية وبقية مدن القناة، وتحديدًا بعد أي عملية ناجحة ينفذها الجيش المصرى، فبعد نكسه 5 يونيو 67 استخدمت إسرائيل كل وسائل الخسة، وأتذكر حادثة كانت من أبشع ما قام به الاحتلال، عندما ضربت قواتنا الجوية سيناء يومى 14 و15 يوليو 67 فيما يعرف بضربات «أبو العز» لمخازن الأسلحة والذخيرة بسيناء بعد أقل من شهر من احتلالها.

حلقت طائرة إسرائيلية الساعة 6 إلا عشر دقائق على مدينة الإسماعيلية لاستطلاع أكبر منطقة مكتظة بالسكان لضربها والتأثير على الجيش، وأتذكر الوقت بدقة لأننى كنت فى طريقى إلى محل والدى، وسألنى أحد المارة عن الساعة، وبعد نحو نصف ساعة وتحديدا وقت صلاة المغرب سمعت صوت انفجارات عندما ضربت الطائرات الخسيسة المدينة، وبدأت بالشارع الخلفى لشارعنا عند قهوة «نعناعة».

ثم محطة السكة الحديد، وأحرقوا قطار ركاب، وكان يومًا داميًا على محافظة الإسماعيلية، فالطائرات ظلت تضرب وتسكت 10 دقائق ليخرج السكان من المخابئ فتضرب مرة ثانية لترتفع حصيلة الشهداء، وبعد أن توقفت الغارة توجهنا ناحية الأماكن التى استهدفتها طائرات العدو، ووجدنا عند قهوة «نعناعة» من بين هؤلاء الشهداء شابة اسمها حسنية حسنى على السيد، جارتنا، كانت ممرضة استشهدت هى ووالدها الذى كان يوصلها فى هذا اليوم، وتجاوزت أعداد الضحايا وقتها 300 فرد من الإسماعيلية.

 *ماذا عن واقعة مستشفى قناة السويس؟

مستشفى قناة السويس كان يعتبر ثالث مستشفى فى العالم من حيث الأجهزة والمعدات الحديثة، ومجهز بغرف عمليات كبرى وصغرى، وحاولت قوات الاحتلال استهدافه، وجاء إلينا أحد رجال المخابرات يخطرنا بأن هناك معلومات عن استهداف المستشفى، وطلب مساعدتنا لإخلاء الأجهزة المهمة بأسرع وقت، دون لفت أنظار قوات الاحتلال، وبالفعل نجحنا فى تنفيذ العملية، بعدما انقسمنا إلى فريقين، الأول مهمته إلهاء جنود الاحتلال، والثانى ينقل الأجهزة، وبعد ساعات نفذت إسرائيل غارة على المستشفى بالفعل.

*ما تفاصيل قصة البطل الشهيد «سيد»؟

الشهيد «سيد» كان آخر شهيد فى الإسماعيلية، فيوم 22 أكتوبر 1973، المعروف بـ«يوم وقف إطلاق النار» أطلقت القوات الإسرائيلية غارات جوية على المدينة وضربتها بقنابل محرمة دوليًّا، ومن المواقف التى لا أنساها، الطفل سيد كان عمره نحو 10 سنوات، بعد القصف وجد قنبلة لم تنفجر حاول تحريكها وإلقائها فى الترعة حتى لا ينفجر الكوبرى.

لكن من ثقل القنبلة طلب «سيد» من أحد المارة مساعدته وكان رجلًا كبيرًا على دراجة فلم يستجيب له فظل الطفل يحركها ببطء فانفجرت فيه واستشهد على الفور، بعدما استطاع إبعاد القنبلة عن محيط الجسر، ولا يزال هذا الجسر موجودًا حتى الآن شاهدًا على بطولته.

*بعيدًا عن ذكريات الحرب.. حدثنا عن مسيرتك الفنية وأبرز أعمالك؟

أعمالى الفنية جميعها أستوحيتها من الحروب؛ لأن الحرب والدفاع عن البلد شكلت حياتى بعد ذلك، فمنذ صغرى لدى هواية الرسم والنحت، وأذكر أننى أثناء دراستى فى حصص الرسم كنت أحصل على قطع «صلصال» أصنع منها أشكال جميلة، وكان المدرس المسئول يعرضها فى المعارض الفنية التى كانت تنظمها المدرسة، كما كانت تعلق اللوحات التى أرسمها بنفسى فى الفصل، فكنت أرسم الأهرامات وأبو الهول والمعالم التاريخية، لأننى كنت منذ طفولتى مولعًا بالطبيعة المصرية.

*ماذا عن أبرز أعمالك الفنية؟

أول عمل فنى قدمته كان تمثال «الصمود» صنعته عام 1968 من شظايا القنابل والصواريخ تم عرضه فى العديد من الأماكن وشاهده العشرات من الناس ثم وضع عند مدخل المعدية رقم 6 فى الإسماعيلية، وصممت أيضا تمثال «النصر» الذى صنعته هو الآخر من شظايا الصواريخ المصرية التى دمرنا بها خط بارليف المنيع.

وأهم مشروع فى حياتى عبارة عن هرم من مخلفات الحروب نقوم بعمله فى سيناء التى شهدت الكثير من ويلات الحروب على أرضها لتكون مدينة للسلام يزورها الناس من كل أنحاء العالم، وندعو كل الدول للمشاركة ببعض مخلفات الحروب لديها من قطع دبابات أو صواريخ أو طائرات لتشكل مكونات الهرم مع كتابة اسم الدولة على القطعة، وجهزت التصميم وعرضته على العديد من الجهات.

وشاهده اللواء كامل الوزير عندما كان مديرا للهيئة الهندسية، وأعجب به فعلا، وقلت له ممكن الدول المشاركة تساعدنا فى ميزانية بناء الهرم، فرد قائلا: «نحن نستطيع عمله بالكامل بفلوسنا»، غير أنه بعدها لم يتواصل معى أحد لتنفيذ المشروع.

الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ "فيتو"












الجريدة الرسمية