رئيس التحرير
عصام كامل

حكايات الست ماري (5)

في ألبوم الست ماري صور أقدم من بعض الدول والممالك، توثق طفولتها وشبابها وشاهدة على عصور وحقب، وكأنها جداريات تبطن قلب معبد قديم. وفي زيارتي لها هذه المرة، وضعت بين يدي الألبوم، وذهبت لتعد لي فنجان قهوتها المخصوصة التي تصنعها دوما بحب.


من بين الصور، واحدة تظهر فيها ماري وهي طفلة في الثانية من عمرها، وقد استقر بها المقام في رحاب والدها، حيث تجلس إلى حجره، وهو جالس على كرسي مصنوع من الخشب ومزخرف بنقوش قدت من عالم النباتات والطيور، بينما والدتها تقف إلى جوار زوجها واضعة يدها على كتفه.

لم تكن ماري – الطفلة – منتبهة لعدسة الكاميرا، إذ كانت تنظر إلى جهة اليمين، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة عذبة لا تقل جمالا عن طفولتها، ويبدو أنها آنذاك كانت منشغلة بشيء معلق على أحد جدران استوديو بيلا، الذي التقطت فيه هذه الصورة، التي تعود لخمسينات القرن الماضي.

نيشان
وضعت الست ماري فنجان القهوة أمامي، وإلى جواره كوبا من الماء البارد، ثم تبسمت بحنين، حن رأت الصورة التي أطالعها، وراحت تحكي لي عنها. «كنت قد تجاوزت الثانية من عمري بشهور، حين أخذت هذه الصورة، ولم أكن مهتمة بعدسة الكاميرا، لأنني كنت منشغلة بمتابعة أخي (نيشان) الذي يكبرني بخمسة أعوام.. رفض أن ينضم إلينا في الصورة وظل يجري هنا وهناك حتى أنه أزعج المصور».

وضعت الست ماري يدها على خدها وغابت لثوان في عالمها، فبدت لي وكأنها قد سافرت في مكانها إلى مكان وعالم آخر، فظهر التأثر واضحا في ملامحها، ونبتت دمعة على أعتاب عينها، ثم راحت تكمل حكايتها: «كان نيشان شابا جميلا، لكنه كان تائها دوما، حتى أنني تخيلته يوما سفينة بلا قبطان، تبحر هنا وهناك دون وجهة محددة، ولم ترس يوما في ميناء.. في صباه تعرف إلى مجموعة من أقرانه، الذين أخذوه معهم إلى اليونان ليعمل على إحدى السفن لسنوات وسنوات، وحين عاد عرفنا منه أنه سجن هناك بعدما تورط في عملية تهريب لم يكن يعلم عنها شيئا».

الست ماري الجميلة دوما بارعة في تخفيف الحزن بالضحك، فهي تحكي ما يدمي القلوب بينما الابتسامة لا تغادر ملامحها أبدا، حتى وهي تقص علي ما كان فعله والدها مع أخيها حين عاد.. ذلك الأب الذي كان يترجم خوفه على ابنه بقسوة شديدة، وصلت إلى أن يقيده بالأغلال في غرفته حتى لا يترك البيت مرة أخرى.

ماري ونيشان
«في أحد الأيام تسللت إلى غرفة نيشان، لأطمئن عليه وأعطيه بعض الحلوى التي أهربها له دون علم أبي، وبمساعدة من أمي.. وقتها وجدته ينزف دما من أعلى قدمه، فرحت أنظف له جرحه بقطعة قماش انتزعتها من ملابسي، ثم ساعدته على فك القيد، فودعني قبل أن يفر من محبسه، وكانت هذه آخر مرة أره فيها».

«كان نيشان سفينة بلا وجهة»..

بعض الأخبار التي وصلت أسرة الست ماري عن شقيقها، الذي اختفى، تقول إنه هاجر إلى كندا، حيث سافر رفقة بعض البحارة إلى إيطاليا، التي عاش فيها لنحو عامين، قبل أن يستقر به القمام هناك في أقصى الشمال، حيث الجو البارد والحياة التي لا يعرف فيهخا أحدا.

ورغم قصر الفترة التي عاشت فيها ماري مع شقيقها، إلا أنها مازالت تذكر تقليده لحركات تشارلي شابلن، وصوت يوسف بك وهبة، وكيف أنه كان مغرما بليلى مراد.. تذكر نزهاتهما سويا في شوارع القاهرة ومطاردة السيارات في الطرقات، والفراشات في الحدائق.. واجهات المحال التي كانت تعكس صورتيهما بالملابس الجديدة.. أول مرة تعارك فيها نيشان مع شبان الحي، حين اسمعوها أولى كلمات الغزل، فور أن بزغت كنوز جسدها البض.. مازالت تحتفظ بالخاتم الفضي الذي أهداه لها في عيد مولدها الرابع عشر.. وحضنه الذي آواها حين صفعتها أمها على خدها.. مازالت تتذكر لهفته عليها حين جرحت يدها بالسكين في أول مهمة لها في المطبخ.. أحداث وأشياء ومواقف شكلت السيرة الذاتية لأخوة لم ينتقص منها غياب الأخ.
الجريدة الرسمية