رئيس التحرير
عصام كامل

يسري فودة و"آخر كلام".. شهادة واقعية عن "ساعات يناير الحرجة"..متحدثًا عن "ليالي الثورة.. حتى الصباح" وسيناريوهات "يسقط.. يسقط رأس الدولة"

يسري فودة وآخر كلام
يسري فودة وآخر كلام
كان «آخر كلام» لا يزال حتى ذلك الأسبوع برنامجًا أسبوعيًا يذاع في العاشرة من مساء الجمعة، هذا الأسبوع لم يكن أسبوعًا عاديًا بكل تأكيد.

المدافع الثقيلة في قلب القاهرة، والمدافع الثقيلة (Big Guns) في عالمنا الصحفي تعني كبار الصحفيين ومقدمي نشرات الأخبار وبرامج التلفزيون الضخمة، هبطوا فرادى ومثنى وثلاث ورباع على مصر. من بينهم نجم صحيفة الإندبندنت البريطانية، روبرت فيسك، الذي هرول من بيروت، فألقى حقيبته في أحد فنادق وسط القاهرة وزارني في منزلي بعد أن مر على ميدان بدا شكله الآن مختلفًا كثيرًا في عينيه.. ميدان التحرير.




زيارة فيسك

«ماذا يحدث؟!».. الرجل الذي قضى في هذه المنطقة من العالم، حتى ذلك الوقت، نحو خمسة وثلاثين عامًا، زار مصر أثناءها أكثر من مائتي مرة، يرى الآن شيئا لم يره من قبل ولا يستطيع أن يسيطر على أبعاده، ولا يجد في قاموسه مما يمكن ان يصفه بدقته الحادة المعتادة وسخريته اللاذعة.

«هل يمكن أن تفسر لي لماذا لم أر أحدًا يحرق علم أمريكا؟».. «لماذا لم أر لافتة تقول: الإسلام هو الحل؟».. «لماذا نزعت صور جمال مبارك من الشوارع سرًا قبل يومين؟».. «كيف طلع الصباح على هؤلاء المتظاهرين وهم لا يزالون في ميدان التحرير؟».. «هل سمعت أن البرادعي سيعود إلى مصر غدًا».. «يبدو أن عمرو موسى كان محقًا هذه المرة عندما قال إن تونس ليست بعيدة عن مصر، أليس كذلك؟».

كان لديه ألف سؤال، ولم تكن لدي من أجله إجابة شافية، لكنه كان يسجل ملاحظات مختزلة بصورة محترفة في دفتر صغير على أي حال، ثم وافق على الفور عندما طلبت منه أن يكون ضيفي في الاستديو بعد غد الجمعة، مع ضيفين آخرين.

ظهر الجمعة، الثامن والعشرين من يناير 2011، كان الزخم قد بلغ أقصاه، إذ أرى الناس الآن ينهمرون أفواجًا عقب الصلاة من كل مسجد وينحدرون في اتجاه الميدان، بينما أمر بشوارع مختلفة مؤدية إليه في جولة استطلاعية في طريقي إلى مكاتب هيئة الإذاعة البريطانية على الشاطئ الغربي لنهر النيل في حي العجوزة.

أرى أيضا – في محاولة تبدو نافرة لاحتواء ما سماه الثوار «جمعة الغضب»- أفواجًا كثيفة من تشكيلات الأمن المركزي بعضها متحرك وبعضها متمركز لدى التقاطعات الرئيسة.

لا هواتف محمولة تعمل ولا انترنت. فُصلنا عن العالم وعن بعضنا البعض بفعل فاعل منذ أمس، لكن الحظ كان قد أسعف الزميلة ليز دوسيت، نجمة الخدمة الإخبارية العالمية لتلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية، بي بي سي، قبلها بيومين كي تدعوني إلى الظهور معها في نشرة الظهيرة اليوم، وقد التزمت بوعدي.

أسعفني الحظ أنا فور وصولي عندما اكتشفت أن ما لديهم من إمكانات يتيح الدخول إلى الإنترنت عبر الأقمار الصناعية. كانت تلك أول مرة أقف فيها على رد فعل العالم مبدئيا على ما يحدث في مصر. عندما لاحظت أن قلة قليلة جدا تدرك حقا حجم الحراك الشعبي وطبيعة معناه، دخلت إلى حسابي على موقع تويتر، ووطنت نفسي على استساغة ما كنت على وشك أن أكتبه وكأنني أحاول أن أقنع نفسي به قبل أن أقنع غيري: «It is time to use the R word – Revolution» (حان الوقت لاستخدام كلمة «ثورة»).

وقت الثورة

قبل ذلك مباشرة كنت قد صعدت إلى سطح البناية العالية التي تضم مكتب بي بي سي، كي أنضم إلى مصورين يخاطرون بحياتهم من فوق السور لتوثيق ما يحدث، بينما تتصاعد سحابات كثيفة من دخان قنابل الغاز المسيل للدموع من أسفل إلى أعلى.


وقع مصور على الأرض من الغثيان فهرولوا لعلاجه، بينما سدد أنفي وجانبًا من فمي بمنديل مبلل بالخل، وألقيت بالجزء العلوي من جسدي فوق السور كي أتابع مشهدًا مثيرًا لم أر مثيله من قبل، ولا حتى في منطقة حرب، بحذاء الضفة الغربية لنهر النيل تقدم تشكيل أمني مدرع من الناحية اليمنى، في ما يبدو لإغلاق الطريق أمام موجة من الثوار تهدر في طريقها من الناحية اليسرى قبل أن تلتحم مع الموجات الهادرة من اتجاهات مختلفة في طريقها إلى كوبرى قصر النيل.

أما والأمر كذلك تعلقت عيناى بمنظر شاب انفصل في خفة عن الجميع، منحدرًا من الطريق إلى أسفل الكورنيش، متنقلًا في خفة بين الأشجار، إلى أن قطع المسافة الفاصلة بين الفريقين. ثم فجأة انبثق من أسفل الكورنيش إلى الشارع جريًا، ثم قفزًا كالفهد فوق سيارة مصفحة تعلوها فتحة تخرج منها فوهة قاذفة القنابل المسيلة للدموع.

أمسك بها واختطفها فكانت لحظة ألهبت الحماس، وانتهت لديها المعركة بانسحاب فوضوي للتشكيل الأمني أمام هجوم كاسح من الثوار.

في الموقع نفسه فوق السطح، صرخت «ليز» في اتجاهي: «يسري.. نحن على الهواء».. وقفت أمامها وقد سألتني أولًا عن مدى حداثة المشهد من وجهة نظري، لكن فكرة واحدة كانت قد تمكنت مني في تلك اللحظة وأنا أقاوم للبقاء متماسكًا تحت تأثير الغاز: ».. وقفت أمامها وقد سألتني أولًا عن مدى حداثة المشهد من وجهة نظري، لكن فكرة واحدة كانت قد تمكنت مني في تلك اللحظة وأنا أقاوم للبقاء متماسكًا تحت تأثير الغاز: «هذه قنابل مسيلة للدموع صُنعت في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يلخص، بمعنى من المعاني، تاريخ الشرق الأوسط في العقود القليلة الماضية».

اتيحت لي الفرصة بعد ذلك بنحو سبعة أشهر للإطلاع على فيديو هذا اللقاء – عندما لعبت دور الضيف في برنامجي أمام باسم يوسف – فاكتشفت فجأة أن المشاهدين لم يسمعوا مني بعد ذلك سوى كلمة واحدة، رغم أننا كنا نظن أننا لا نزال على الهواء: «واشنطن.. ». سيطرت على البث بعد هذه الكلمة صفارة طويلة مزعجة، قبل أن ينتقل الهواء إلى مذيعة الاستوديو في لندن كي تعتذر عن «خطأ فني»، بما كان الأمر كذلك، وربما لم يكن، لا أدري.

كل ما كنت أعمله أن على الآن أن أهرول عائدًا إلى المنزل قبل التوجه مباشرة إلى مدينة الإنتاج الإعلامي لإعداد برنامجي، ولم أكد أصل إلى مكتبي حتى قرأت على شاشة التلفزيون المصري: «الأمن يتعامل بحزم مع من يحاولون الخروج على القانون» بينما يظهر مذيع وهو ينتظر إشارة البدء قبل أن ينطلق: «سيداتي سادتي.. نظرًا لما شهدته بعض المحافظات من أعمال شغب والخروج على القانون، وما شهدته من أعمال النهب والتدمير والحرق والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، بما في ذلك بعض البنوك والفنادق، أصدر الحاكم العسكري قرارًا بحظر التجول بمحافظات القاهرة الكبرى، الإسكندرية، والسويس، من الساعة السادسة مساءً حتى السابعة صباحًا، اعتبارًا من اليوم الجمعة، الموافق الثامن والعشرين من يناير، ولحين إشعار آخر.

كما أصدر الحاكم العسكري بأن تقوم القوات المسلحة بالتعاون مع جهاز الشرطة لتنفيذ هذا القرار وللحفاظ على الأمن وتأمين المرافق العامة والممتلكات الخاصة».
الجريدة الرسمية