رئيس التحرير
عصام كامل

البيوت حواديت فيها الأصيل وفيها الوضيع

في وقت ليس بالبعيد يجي تلاتين سنة..
كنت أحضر من الكويت عند انتهاء العام الدراسي في أجازة سنوية إلى مصر ، وكنت أفضل الإقامة عند خال والدتي رحمة الله عليهما . المجتمع المصري مختلف بالطبع عن المجتمع الخليجي ، فمصر تتسم بحضارات مختلفة واستعمار دول مختلفة لنا بثقافات متنوعة انصهرت على أرضنا، مما نتج عنه المصري المتفرد بفروسية الرومان التي تظهر في ولاد البلد..

 

وذوق الفرنسويين التي تتسم بها سيدات مصر ، وعنطزة التراكوة التي تظهر في افتخارنا بما لدينا وإن كان القليل ، ورقي الإنجليز في معاملاتنا المتحضرة، وشموخ الفراعنة الذي أسس لنا الأصول والعادات ، كما أن النيل رسخ بداخل المصريين الود واللطف والصبر والعطاء .


بسبب نشأتي في الخليج ، استطعت أن أرصد الاختلافات الدقيقة بين البلدين ، وإن تخطت معرفتي بصديقات من جنسيات عربية مختلفة ، منها الأردنية والسورية واللبنانية والفلسطينية ، وأيضا بسبب المدرسات الباكستانيات والهنود اكتسبت الكثير من المعرفة عن ملامح عامة لكل جنسية ، وعلى ماذا يتشابهون ، وأين تكمن هوة الاختلافات الاجتماعية لكل جنسية .

 

 مجرد فرصة


كانت هويتي المصرية تجعلني أعتز بنفسي ، فنحن نتسم بالطيبة والعذوبة والتواضع .. التي كنت أجدها دائما في معاملات المصريين مع من هم أقل منهم ماديا او تعليميا أو مستوى معيشة .


بيت خال والدتي هو نفسه بيت جدة أمي ، الذي ورثه خال والدتي بكل ما فيه ، من طيبة ولطف وتواضع وحب الناس ، وايضا ورث عن والدته سيدتين كانتا تساعدان الأم في تنظيف البيت والطهي ، وأخر اليوم تشاركانها أيضا في سماع الراديو والست أم كلثوم ، فيشاركنها ليالي السمر وقراءة الفنجان وحكايات الشباب والشكوة من الكنة والجيل الجديد اللي ماشفش شقى ولا تعب السنين مثلهم .


وجاء جيل الأحفاد وأولاد الأحفاد " انا" لأعاصر بقايا الحواديت ، وأكمل مسيرة الحب لسلالة أم فاروق "خال أمي". وعيت على الدنيا على اسم سيدتين كانتا جزءا من العائلة ، رأيتهم جدات ، لكن حكت لي والدتي كيف أتيا لمساعدة جدتها منذ صغرهما من الصعيد والريف ، هما الست أم زينب والست فهيمة .


أم زينب سيدة من جنوب مصر تشعرك بأنها خرجت من كتب التاريخ ، أو بقايا الفراعنة حول وادي النيل ، بسمرة بشرتها وضخامة بنيانها الجسدي ، تشم عطرها "555 او اللافندر " الذي يتساوى في وضعه ست البيت والست التي تساعدها في ذلك الوقت لعدم وجود عطور متعددة ، فهي تفرض على الجميع حضورها وطقوسها في كل ما تطهيه من مأكولات..

 

صاحب السعادة

 

كانت أمي تعتبرها الصدر الكبير الحنين ، وكان خال أمي يمازحها دائما ويناديها أم كشك بدلا من أم زينب لأنها تفرض طبق كشك المظ الصعيدي على مائدة طعام كل يوم ولا يستطيع أحد أن يتذمر أو يراجعها في أصنافها التي لها "نفس في الاكل " لم يصل إليه أحد من بنات العيلة..

 

كما أن لها فنجان قهوة يعدل الدماغ ويطلق العنان للهدوء النفسي وقت المغربية ، فأم زينب التي تقف لتمتص غضب الأم على ابنها "خال امي" حتى لا تنهره إذا عاد متأخرا وهي أيضا واسطة البنات عند والدتهم للسماح لهن بالخروج أو التنزه ، وهي متخصصة في حموم أمي الصغيرة ، فكانت تجليها كالرخام في كل "حماية " ، فيداها صلبة كيد المصري الذي حرث بفأسه أرض القطن ، وتجاعيد وجهها تخط صبر الفلاح المصري على زرعه حتى يثمر ويحصد الخير ، وعيناها السوداتان تحكي قصة كفاح في تربية أبناء وأحفاد بالحلال .


وهناك الست فهيمة المشاكسة التي جاءت من الريف المصري ، والتي اتعلمت "واتودكت" كيف تعتني بنضافة البيت ، ومن ثم كانت تحرم علينا دخول الغرف التي نظفتها حتى لا تتسخ الأرض الخشبية المبللة بأقدامنا ، وحتى لا نجعد ما فرشته من ملايات أو نفتح شبابيك لغرفة قد ملأت برائحة النظافة والسكينة .


عندما أقارن الست أم زينب أو الست فهيمة بالفلبينية أو الهندية أو السيرلانكية التي تستعين بها صديقاتي الخليجيات في قصور البترول حديثة الإنشاء ، أجد مجرد سيدة شرق اوسطية دخيلة على مجتمع عربي ، تضرب وتعذب وتهان بتعالي وتكبر من قام في الصباح فوجد نفسه من الاغنياء ، تصبح شبه خرساء لأنها لا تقول سوى "حاضر ماما ، حاضر بابا "..

 

 فارق دقيق بين الحبيب والصديق

 

تحرم من رؤية أبنائها لسنوات لسفرها للعمل ، فتجدها حزينة منكسرة كارهة للآخرين لدرجة ما كنا نقرأه في الصحف عن ذبح خادمة لأولاد الأسرة التي تعمل لديهم ، أو وضع خادمة لطفل سيدتها في شنطة السيارة وغلقها ومعه مفتاح السيارة ، أو خادمة تعمل سحر أسود بملابس من تعمل لديهم.. إلخ من مانشتات الصحف الصادمة للرأي العام .


كنت أسمع كلمة خدم فقط في الخليج ، أما في مصر فنشأ جيلي على أنهم من أفراد العائلة لقربهم منا ، ولشدة حبهم لنا وحبنا لهم ، فلا أنسى تلك الجارة السوهاجية التي تقطن بالعمارة المجاورة لنا التي تعتبر من أعيان محافظتها إنها كانت ترحب دون تأفف وتقدر أن الست ام أحمد التي تربت في بيتها منذ طفولتها وزوجتها وظلت في خدمتها عشرات السنين، كانت تنام بجانبها على فراشها في آخر أيامها لخوفها على جارتنا ولتراعها في كبرها لطول العشرة بينهما وردا لمعاملتها بالحسنى والفضل لها ولاولادها .


أقارن وأسمو بإنسانيتنا في تعاملنا مع من تساعدنا في مهام التنضيف والطهي تحت ضغط الفقر والحاجة وغلاء المعيشة ، إيمانا منا إن الله فضل بعضنا على بعض بتقواه وليس بما نملك ، أعطانا لنعطي غيرنا ، منحنا لنعاون غيرنا على الحياة ، اختبرنا بعطائه ، فهل سنجود كما أغدق علينا الكريم ، أم سنعاير ونهين ونذل ونمن على من هم أقل منا كما يفعل اللئيم!

الجريدة الرسمية