رئيس التحرير
عصام كامل

قراءة فى أزمة كورونا الاقتصادية (2 )

رأينا فى مقال سابق أن الأزمة الاقتصادية لكورونا أزمة مركبة ومعقدة ذات جوانب صحية، إنسانية، اقتصادية، اجتماعية، أصابت جانبى العرض والطلب.

 

ويلاحظ المتابع للأزمة أن وتيرتها ليست واحدة فى كل الدول ولا حتى فى القطاعات الاقتصادية داخل الدولة الواحدة، مما يثير التساؤل لماذا هذا التباين وما هى العوامل التى تأثر بعض الاقتصادات أكثر من غيرها؟ نعرض هنا بعض العوامل الرئيسية التى تفسر ذلك :

- عنصر الزمن: يشير ذلك إلى أمرين مهمين . الاول، مدى السرعة فى اتخاذ الاجراءات للحدمن انتشار الفيروس ووقفه وهو ما يعكس مدى فهم طبيعته!.اذ أن الدول التى سارعت الى مجابهته استطاعت أن تحقق نجاحا اسرع من غيرها فى الحد من انتشار الفيروس وأن تأثر اقتصادها وأثر فى غيره من الاقتصادات الاخرى.

 

الثانى، ان سرعة وقف الانتشار وفتح ابواب الاقتصاد للعمل يحول دون تفاعل التأثيرات الاقتصادية السلبية الدائرية من الدرجة الثانية والثالثة...الخ، أى يحول دون انتشار العدوى بين أعضاء الجسم الاقتصادى مثلما فى حالة انتشار البطالة وتدنى الدخول وضعف الطلب وانكماش الاستثمارات وتنشأ بالتالى دوائر خبيثة جديدة فى الاقتصاد لايتم معالجتها بمعالجة الفيروس وانما تحتاج إلى اجراءات أخرى أكثر تكلفة ومدة زمنية أطول وهو ما يحدث إذا استمرت الازمة الاقتصادية فترة أطول . نوضح ذلك فى مقال قادم عن توابع الزلزال .

 

اقرأ ايضا: المجالس التصديرية: إعداد ورقة عمل لتجاوز أزمة "كورونا"

 

- ادارة الازمة المركبة: تلعب الحصافة والتوازن فى ادارة الازمة دورا مهما ليس فقط فى نجاعة مواجهتها وانما كذلك فى النتائج التى قد تترتب عليها اقتصاديا واجتماعيا. فالادارة المتوازنة لاتملى اغلاق الاقتصاد فى كل قطاعاته وانما تركز فى اجراءاتها على القطاعات كثيفة التواجد البشرى مثل المؤسسات التعليمية، دور السينما والمسرح، وقطاع التسلية والترفيه بوجه عام وهى قطاعات تأثيرها المباشر على المتغيرات الاخرى أقل من القطاعات الانتاجية الكثيفة التكنولوجيا ورأس المال التى يتم الإبقاء عليها تعمل..

 

وهنا يظل الاقتصاد يعمل ولو جزئيا ويولد دخولا تخلق طلبا فعالا يساعد على النهوض الاقتصادى مرة اخرى. كما إن الادارة المتوازنة تتخذ من الاساليب والوسائل ما يجعل القطاع الخاص والأهلى يسهمان فى حل الازمة لأن الكل مستفيد على الجانب الانسانى والجانب الاقتصادى فاستقرار السوق ووجود قدرة شرائية تفيد الجميع مما يؤدى إلى تجنب ارهاق الموازنة العامة أو سحب تمويل من مشروعات تنموية مهمة وكذلك تجنب تراكم حجم المديونية العامة بأحجام كبيرة.

 

- الاجراءات التعويضية للحكومات: يمكن للحكومات والمؤسسات ذات الصلة أن تتخذ إجراءات نقدية ومالية تعويضية على نحو متناغم  تعمل على إنتشال الاقتصادات من السقوط فى غياهب الدورة الاقتصادية الخبيثة . وهذه الاجراءات متزامنة تشمل جانبى العرض والطلب لما لحقهما من اضرار فى ذات الوقت .إذ للنهوض بالعرض وزيادة الانتاج يجب أن يكون هناك طلب مؤثر، ولزيادة الطلب يجب زيادة التشغيل والتوظيف..الخ..

 

اقرأ ايضا: المجالس التصديرية: إعداد ورقة عمل لتجاوز أزمة "كورونا"

 

ومن الأمثلة زيادة السيولة النقدية فى أيدى الأفراد من خلال منح دخول نقدية مباشرة خاصة للعمالة غير المنتظمة مثل العمال باليومية، تشجيع القطاع الخاص على عدم تسريح العمالة وعدم خفض الاجور، تحرير جزء من الدخل من الضرائب خفض البنوك المركزية اسعار الفائدة بما يعود بالنفع على المنتجين والمستهلكين ويؤثر ايجابا على كل من الطلب والعرض، تأجيل سداد أصل المديونيات المستحقة لحين إنتهاء الازمة الصحية والاقتصادية، تقديم دعم مباشر للمشروعات الصغيرة (حوالى نصف تريليون دولار فى امريكا على سبيل المثال)....الخ والواقع تختلف الاجراءات حسب طبيعة النظام الاقتصادى، درجة النمو والثراء الاقتصادى ورؤية الدولة للازمة لديها.

 

- معدل الانكشاف الاقتصادى العالمى: يشير هذا المحدد إلى درجة اعتماد الاقتصاد الوطنى على الاقتصادات الاخرى بالنسبة لاعتمادة على ذاته. فاذا كان الاقتصاد يعتمد على الاسواق الخارجية فى التصدير والاستيراد وخاصة للمدخلات الانتاجية وحتى السلع الغذائية فيكون نقل ما تشهده تلك الاقتصادات من تغيرات سريعا وقويا ومن ثم حاكما لتطوره مثل التأثر الشديد الذى اصاب الكثيرمن الاقتصادات و بعض القطاعات او الصناعات بداخلها بسبب الاضطراب فى سلاسل التوريد العالمية.

 

- طبيعة الاقتصاد : هل الاقتصاد اقتصاد ريعى يعتمد على سلعة استخراجية وحيدة او رئيسية مثل البترول أو الغاز الطبيعى أو يعتمد على عناصر دخل لايمكنه التحكم فيها مثل عائدات السياحة، رسوم العبور فى الممرات المائية وما شابه ومن المعروف أن الدخل من هذه المصادر يعتمد على مؤثرات خارجية اكثر من الداخلية. فالازمة المركبة الاخيرة هذه اسهمت فى أن تهوى اسعار النفط بشكل حاد مما أثر سلبا على كثير من إقتصادات الدول التى تعتمد عليها بقوة وكذلك الامر بالنسبة لتدهور ايرادات قطاع السياحة ....الخ .

 

بالقطع يختلف الأمر إذا كان الاقتصاد انتاجيا ويتسم هيكله بالتنوع حيث يتولد معظم دخله من جهازه الانتاجى المتطور فتكون درجة تأثره اقل و يستطيع العودة للعمل مرة اخرى، خاصة اذا ما كانت الاجراءات المتخذة متوازنة.

 

اقرأ ايضا: الحكومة تعلن مجموعة إجراءات احترازية يجب اتباعها

 

- اليقين والثقة: يتأثر الاقتصاد بما إذا يسود فى الاقتصاد مناخ يسوده اليقين والثقة. إذ أدت الأزمة الأخيرة إلى أن تعمل الاقتصادات فى ظل عدم اليقين لعدم القدرة على التوقع والتنبؤ بما ستكون عليه المتغيرات الاقتصادية من عرض كلى أصابه التوقف ومتى سيستأنف الانتاج وما يرتبط بذلك من طلب كلى أو تجارة دولية ...الخ . كلما ساد مناخ الثقة واليقين كلما دفع ذلك إلى تشجيع القطاع العائلى والاستثمارى على الانفاق والاستثمار وإعادة التشغيل والتوظيف ولو بشكل تدريجى مما يساعد على الخروج التدريجى من الازمة .

 

- المشاركة المجتمعية: تعد المشاركة المجتمعية ركنا اساسيا فى الاقتصاد فالبشر هم دائما جزء من المشكلة ويمكن أن يكونوا جزءا فاعلا فى الحل خاصة فى مثل هذه الازمة التى تتخذ اجراءات هدفها الاساسى حماية الانسان . وهنا يلعب الاعلام بكل وسائله دورا اساسيا فى التوعية بطبيعة الأزمة وخطورتها وما يجب على العامة القيام به . فالازمة الاقتصادية تبدأ فى الحل فى الوقت القصير مع حل الازمة الصحية الانسانية.

 

- التعاون الاقليمى والدولى: أثبتت التجربة إن الفيروس إنتشر من دولة لأخرى إنتشار النار فى الهشيم ولا تجد دولة أيا كانت درجة تقدمها محصنة ( 213 دولة). لذلك فإن من مصلحة الدول التعاون فيما بينها للقضاء على الفيروس خاصة وإنه متجدد وسريع العدوى ويمكن عودته مرة أخرى. ولن تغلق الدول حدودها أمام بعضها للأبد.

 

ويأخذ التعاون الدولى و الاقليمى صور شتى مثل تقديم المساعدات النقدية أو تخفيف الأعباء من أجل توجيه الكثير من الأموال تجاه المرض او مساعدة الطبقات المتضررة منه، تبادل المعلومات بشفافية، تبادل الاجهزة الطبية المساعدة، التعاون فى البحث العلمى للتوصل إلى دواء أو مصل بعيدا عن الرغبة فى تسليعها منذ البداية لتحقيق ارباح .

 

يجب توافر الفهم لان التعاون فى محاربة الفيروس فى دولة اخرى كأنه محاربة فى الدولة ذاتها وإنه يصب فى مصلحتها ايضا. ويمكن للمؤسسات المالية والنقدية والاقتصادية العالمية والبنوك الوطنية والاقليمية والعالمية أن تلعب دورا مهما فى هذا الاطار بالاضافة للدول خاصة المقتدرة منها.

- عوامل أخرى: توجد العديد من العوامل التى تفسر –ولو جزئيا- مدى التأثير و التأثرمثل : التقدم التكنولوجى وتوظيفه فى مواجهة الفيروس كما رأينا فى الصين – توافر البنية الاساسية للرعاية الصحية ومدى تطورها –الادارة البراجماتية وليست البيروقراطية لكل مايتعلق بالازمة –الهيكل الديموجرافى للسكان ....الخ .

 

يهدف المقال إلى تسليط الضوء على بعض الاليات التى تفسر مدى تأثير و تأثر بعض الاقتصادات بالأزمة المركبة، كما إنه يوحى فى ذات الوقت بالسياسات الاقتصادية المستقبلية الواجب النظر فيها داخليا وخارجيا. فالحقيقة أنه لايمكن أن يكون عالم ما بعد كورونا هو نفسه عالم ما قبل كورونا.

 

الجريدة الرسمية