رئيس التحرير
عصام كامل

قراءة فى أزمة كورونا الاقتصادية

اجتمع العالم أجمع على مستوى الأفراد والمؤسسات والحكومات خلال الثلاثة أشهر الماضية حول قضية واحدة، وهى قضية فيروس كورونا وتداعياته الانسانية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى الدولة الواحدة وعلى مستوى العالم..

 

وهو اجتماع نادر الحدوث فى أوقات السلم وكأننا فى حالة حرب كونية وغير تقليدية. وتعددت الرؤى والتحليلات بدوافع شتى حول الأسباب والنتائج والحلول وأدلى الكثيرون بدلوهم فى هذا المقام.

 

إذ يرى البعض أن الأزمة يمكن أن تؤدى إلى حدوث تصدع فى النظام الاقتصادى العالمى الذى ظل يحكم العالم منذ الحرب العالمية الثانية وشهد تطورات نقدية ومالية واقتصادية حتى تم إنشاء منظمة عالمية للتجارة واتفاقاتها الـ28.

 

اقرأ أيضا: الاقتصاد الصيني يسجل انكماشا تاريخيا

 

وذهب أخر إلى الزعم أنها ستؤدى إلى انتهاء العولمة ليذكرنا بما ذكره كل من "هارولد" وكذلك "آلان روجمان" عن نهاية العولمة أو على الأقل إعادة النظر فيها وفى الاتحادات الإقليمية، وكذلك فى الاتفاقات الإقليمية على غرار ما فعله الرئيس الأمريكى مع النافتا ومع أوروبا ومع الصين ومع الاتفاقات البيئية.. إلخ.

 

وذهب آخرون إلى أنه حتى الاقتصادات القومية سيعاد هيكلتها. ويتكلم فريق عن أن الأزمة الاقتصادية لكورونا ستنقل قيادة العالم من الغرب إلى الشرق، بل يبشر البعض بنشوب حرب عالمية ثالثة وكأن ما خلفته كورونا من دمار فى الاقتصادات الوطنية غير كاف.

 

أيا كانت الآراء نعتقد أنها مسائل مهمة تحتاج إلى دراسة وتحليل متعمق. ونحن من جانبنا نسهم بتقديم قراءة تشخيصية للأزمة لعلها تسهم فى تقديم فهم أعمق لما لذلك من أهمية فى تحليل نطاق وعمق ما يمكن أن تتركه من آثار واقتراح الحلول الملائمة للوضع الاقتصادى العالمى الذى ثبت أنه يعانى من الكثير من الاختلالات وعدم التوازن.

 

نقدم ذلك فى ضوء أمرين مهمين:

الأمر الأول -أن مجلس إدارة الاقتصاد العالمى – مجموعة(الـ7) وكذلك مجموعة العشرين (مج 20 )- فشلتا فى وضع حلول جذرية آنية ومستقبلية للأزمة، و لعل هذا الفشل يرجع إلى:

أ – تغليب الاعتبارات السياسية حيث اختلفت الدول حول جنسية الفيروس.

ب- تباين رؤى بعض  الدول فى التداعيات الصحية والاقتصادية التى يمكن أن تترتب على الأزمة، لدرجة أن بعضها قال فى كلمته إن المسألة ليست بالخطورة التى يروج لها واكتفى أعضاء مج( 20) بتخصيص 5 تريليونات دولار للمواجهة دون تحديد كيفية تفعيل ذلك، كما عبرت كلمات رؤساء الدول عن العلاج من وجهة نظرها الوطنية أكثر من العمل المشترك الذى اجتمع الجميع من أجله.

 

اقرأ أيضا: علماء يحذرون من علامة جديدة على احتمال الإصابة بفيروس كورونا

 

الأمر الثانى- أن الأزمة أدت إلى نتائج كارثية على الاقتصادات الوطنية وبالتالى الاقتصاد العالمى والتى مازالت تتفاقم حتى كتابة هذا المقال. لقد أسهمت عوامل عدة فى استمرار التفاقم من بين أهمها ما نعرضه فى قراءتنا لما يحدث على النحو التالى:

- أنها أزمة ذات طبيعة مركبة صحية- إنسانية فهى ليست مجرد أزمة مالية أو اقتصادية ولكن حياة الإنسان وبقاءه يقعان موقع القلب منها حيث يصيب الفيروس صحة الإنسان فى مقتل وهو مايجعلها أزمة ذات طبيعة خاصة.

 

لذا لا ندهش أن يصاب الإنسان سواء أكان حاكما أو محكوما وفى كل مكان بالهلع والذعر. واكتسبت هذه الطبيعة بعد آخر بالكشف أن الإنسان نفسه هو الناقل للفيروس لأخيه الإنسان متجاوزا الزمان والمكان وسواء أكان ذلك بالملامسة أو الاحتكاك أو.. إلخ.

 

لذا كان من الضرورى التفريق بين الإنسان والإنسان ويطبق الحجر المنزلى وإذا اقتضى الأمر العزل لبلد أو مدينة وإن كان عدد سكانها بالملايين، هذا بالإضافة إلى العديد من الإجراءات الأخرى التى تتخذ مراعاة لما سبق وهو ما يلقى بظلاله على النتائج الاقتصادية والاجتماعية للأزمة.

 

اقرأ أيضا: إسبانيا تسجل 585 وفاة جديدة بكورونا خلال الساعات الـ 24 الماضية

 

- الغموض والتعامل مع مجهول بمعنى إنه لم يكن هناك إحاطة وعلم بكل جوانب وخصائص المرض حيث يتم الكشف عن خصائص جديدة يوميا وكذلك عن كيفية عمله داخل جسم الإنسان. لذا ساد الاعتقاد أنه سيظل حبيس الصين- لا ندعى أنه فيروس صينى- التى ظهر فيها، ومن هنا بدأت التحليلات حول تأثيره على الدول الأخرى من خلال تأثير على الاقتصاد الصينى فى ظل الإجراءات الصارمة التى اتخذتها.

 

ترتب على ذلك أنه لم يتم التحسب للمرض مبكرا واتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهته. ولعل هذا يبرز من الاتهامات التى تلقى تارة على الصين وتارة أخرى على منظمة الصحة العالمية بأنهما لم تكشفا عن الكثير حول الفيروس.

 

- الانتشار الانفجارى للفيروس ليصيب الإنسان فى عشرات الدول من جهة وفى فترة زمنية قصيرة جدا من جهة أخرى, وهو ما مثل صدمة لهذه الدول حتى أكثرها تقدما وذهب ليحصد البشر فيها مما أصابها بالارتباك والاضطراب – وهى لم تعد للأمر عدته- وكان عليها اتخاذ إجراءات مماثلة لما اتخذته الصين وإن كانت أقل صرامة مثل غلق للحدود-منع التنقل- الحجر المنزلى والبدء فى حملات توعية وغيرها.. إلخ، مما كان له تداعيات اقتصادية واجتماعية مهولة.

 

اقرأ أيضا: المجالس التصديرية: إعداد ورقة عمل لتجاوز أزمة "كورونا"

 

- التلازم الشديد بين الأزمة الصحية والأزمة الاقتصادية. إذ أدت الإجراءات التى اتخذت للحيلولة دون انتشار الفيروس وما ترتب عليها من أثار إلى أحداث أثار اقتصادية سلبية عديدة على الكثير من القطاعات الاقتصادية مثل السياحة، الطيران والنقل بصفة عامة - قطاع الترفية– إغلاق المدارس والجامعات.. إلخ

 

وغلق العديد من الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية وتسريح العمالة وانتشار البطالة وتدهور مستويات الدخل وهو ما انعكس فى بعض المؤشرات المرشحة للتغيير مع الوقت إذ:

* انخفضت الدخول فى 170 دولة وفقا للأونكتاد.

* هبطت معدلات تدفق الاستثمار الأجنبى المباشر بما يتراوح بين 30-40 %.

*- تدهور أرباح أكبر 5000 شركة دولية النشاط فى العالم بأكثر من 20%.

* تدهور البورصات العالمية مما عمق مشكلة عدم الثقة.

*تدهور معدلات النمو فى الدول ابتليت بالفيروس بدءا بالصين وأمريكا وودول الاتحاد الأوروبى، بأكثر من 2-3% ويقدر إنها ستكون بالسالب فى قطاعات مثل السياحة العالمية التى تقدر خسائرها وحدها بأكثر من 400 مليار دولار والطاقة 208%، الطيران 116% بل إن الكثير من شركاته مهدد بالإفلاس، وصناعة السيارات 47% وهكذا.

 

ويسود الاقتصاد العالمى بصفة عامة اتجاهات نحو الهبوط وإن كان الهبوط أشد وطأة فى الولايات المتحدة وأوروبا أكثر منه فى آسيا.

 

اقرأ أيضا: كورونا يمنح مجموعة أسود قيلولة على طريق عام في جنوب أفريقيا | صور

 

*التدهور الشديد فى معدلات التبادل الدولى وانكماش حركة التجارة الدولية. ويرجع التدهور إلى

- سيادة مناخ عدم الثقة

- إجراءات التباعد الاجتماعى والحجر المتخذة فى كل دول العالم وغيرها من الإجراءات.

- انقطاع سلاسل الإمدادات المختلفة خاصة من الصين بالنسبة للمدخلات الوسيطة الصناعية حيث ظلت الصين وعلى مدار العقدين الماضيين تمثل المصدر الرئسى لما يعرف بسلاسل الإمدادات.

 

- يعود تعقد الأزمة ليس فقط لكونها صحية إنسانية وإنما كذلك إلى أنها أصابت جانبى العرض (الإنتاج) والطلب (الاستهلاك) وبشدة . إذ تؤدى الإجراءات التى اتخذتها الدول المختلفة إلى إحداث شلل فى قطاع الإنتاج وحالة من الجفاف فى قطاع الاستهلاك إذ تتوقف تقريبا العلاقات الدائرية بين تدفقات عوامل الإنتاج تجاه قطاع الإنتاج.

 

وما يقابلها من تدفقات نقدية تجاه القطاع العائلى ومن ثم تتوقف عجلة الحياة الاقتصادية، بسبب تسريح ملايين العاملين وانتشار البطالة وخفض المرتبات والأجور لمن بقى فى العمل مما أدى إلى تدهور القدرة الشرائية، هذا عن فضلا عن العامل النفسى حيث يميل الإنسان إلى التحوط والاحتفاظ وعدم الإقبال على الإنفاق إلا على الضرورات.

 

يحتاج مثل هذا الأمر إلى كسر هذا الجمود من خارج هذه العلاقة الآلية البحتة بتدخل الدولة ومؤسساتها النقدية والمالية على مستوى الداخل والمؤسسات الدولية على مستوى الخارج كالبنك الدولى والصندوق والمساعدات من الدول القادرة أو الاتحاد الأوروبى أو البنوك الإقليمية، وهو ما تم بالفعل.

 

اقرأ أيضا: "الفترة القادمة ستكون صعبة".. سلطات موسكو تكشف عن موعد ذروة "كورونا"

 

فالدول أصبح عليها أمام هذه الطبيعة المركبة والمعقدة للأزمة أن تتعامل مع مشكلة الفيروس ووقف انتشاره ومحاولة تسيير الاقتصاد ومعالجة الاختلالات فى جانب الطلب وجانب العرض وتعويم الاقتصادات، وهو ما يحتاج إلى المعالجة الدقيقة فلكل إجراء آثار جانبية، ولذا تتدخل البنوك المركزية والجهاز المصرفى، ووزارات المالية فى إطار من التنسيق الشديد تجنبا للتعارض بين السياسة النقدية والمالية. ولعل هذا الأمر يحتاج مقالات عدة.

 

- ومما جعل الأزمة معقدة أكثر وأكثر أنها شاملة. إذ ضربت كل اقتصادات العالم فى وقت يكاد يكون متقاربا جدا ولم تترك فرصة لدول كثيرة أن تستفيد من تجارب غيرها. هذا الشمول جرد الدول من إمكانية أن تلجأ لطلب المساعدة من دول أخرى. بل على العكس انكفأت كل دولة على ذاتها ومنعت تصدير الأدوات والأجهزة الطبية إلى غيرها لحاجتها إليها كما حدث فى داخل الاتحاد الأوروبى وبين أمريكا وكندا.. إلخ .

 

بل شهد العالم حوادث قرصنة حيث سطت دول على شحنات مرسلة لدول أخرى ربما تكون فى ورطة أكبر.. إلخ

-إذا كانت الأزمة أصابت كل دول العالم تقريبا، إلا أن الإصابات الأكثر تأثيرا فى الاقتصاد العالمى هى إصابة الاقتصاد الصينى والاقتصاد الأمريكى لما لهما من أهمية خاصة فى الحال وفى المستقبل.

 

ففى الحال ظلت الصين مصنع العالم على مدار العقدين الماضيين والمورد الرئيسى لمعظم المدخلات فى صناعات حيوية كالأدوية والسيارات وأجهزة الاتصال والأدوات الدقيقة ومن ثم فإن أى انقطاع للإمدادات يؤثر وبقوة فى الاقتصادات التى تعتمد عليها إلى حد كبير مثل الاقتصاد الأمريكى والأوروبى واليابانى والأسترالى وكوريا الجنوبية… إلخ.

 

أما بالنسبة للاقتصاد الأمريكى فيؤثر فى الاقتصادات الأخرى استيرادا وتصديرا خاصة تصدير السلع عالية التكنولوجيا ناهيك عن هيمنة النظام المالى الأمريكى.

 

الحقيقة أن الأزمة الحالية التى يعيشها العالم وما شهدته من تفاعلات على مستوى الاقتصاد الواحد أو على مستوى الاقتصاد العالمى تثير بعض المسائل المهمة التى تستحق وقفة تأمل علمى واستيعاب الدروس ليكون هناك تفكير ثانٍ وثالث فى قواعد اللعبة الاقتصادية كما وضعتها وتديرها مج الـ7 وكأنها مفوضة من العالم من جانب وعلى الجانب الآخر نعتقد أن هناك حاجة لدراسات عميقة لكثير من الأساسيات الاقتصادية مثل:

العولمة الاقتصادية- دور الدولة- التكتلات الاقتصادية- التركز العالمى- المنظمة العالمية للتجارة واتفاقاتها الـ28- الاحتكارات والحروب التجارية العالمية- التكامل المتوازن فى كافة المجالات.

إلى اللقاء فى مقال آخر حول رؤية لحل الأزمة الاقتصادية لكورونا.

 

الجريدة الرسمية