رئيس التحرير
عصام كامل

التعليم والماء والهواء


لم يكن "طه حسين" يفكر كما يفكر البعض اليوم في أنها مجرد شعارات نطلقها دون حساب، فقد ذكر في وصاياه العشر في كتابه الصادر عام ١٩٣٨ بعنوان "مستقبل الثقافة في مصر" والذي أثار عند صدوره جدلا كبيرا، يقارب ما تبع كتابه "في الشعر الجاهلى".


"طه حسين" دعي إلى الانفتاح على الغرب والاهتمام باللغات الأجنبية جنبا إلى جنب مع العربية الفصحى، ودعا إلى الاهتمام بالمعلمين خاصة في التعليم الابتدائى، وإلى التأكد من مستوى معيشتهم، فهم الأمناء والقدوة لغالبية الشعب، ولا يعلم العزة والكرامة من لا يمتلكها.

قام "طه حسين" بمجرد توليه الوزارة ١٩٥٠ بزيادة ميزانية التعليم والتوسع في التعليم الأولى والثانوى العام والفنى، على أن تتكفل الدولة الغنية في ذلك الوقت بتكلفة التعليم في المرحلتين وأن تكون الدراسة في الجامعة بمصروفات.

وظل الأمر كذلك حتى ٢٦ يوليو ١٩٦٢ عندما أعلن الرئيس "جمال عبد الناصر" رحمه الله أن التعليم الجامعى سيكون مجانا، لكن هذه المرة لم تكن الدولة قادرة على تحمل تكلفة التعليم الجامعى، ولا الاهتمام بالأساتذة وبيئة العمل وأثر ذلك بالسلب على التعليم قبل الجامعى..

فتدهورت أحوال المعلمين مع التناقص في متوسط الإنفاق على الطالب، وبدأ المعلمون في البحث عن مصادر للدخل لتلبية احتياجاتهم الأساسية، فظهرت الدروس الخصوصية، ومع تزايد الفجوة بين التكلفة والإنفاق زادت الكثافات، ومعها زاد التدهور إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه.

وقد يظن البعض أن الحقوق الدستورية في العمل والصحة والتعليم وحرية الرأى وحتى المسكن والملبس وحرية الانتقال والبيئة النظيفة هي حقوق ضمان استحواذ. لكن هذا بعيد تماما عن الواقع، فالحقوق الدستورية هي حقوق إتاحة الأسباب وضمان تكافؤ الفرص في إمكانية الأخذ بتلك الأسباب.

فلا تستطيع الدولة ضمان الصحة لأى إنسان وإنما تعمل على إيجاد طرق لتوفير العلاج وتكافؤ الفرص في الحصول عليه لمن يرغب، بل وإجبارا في بعض الأحيان. ولا تستطيع الدولة ضمان التعليم لكل مواطن، بل تضمن إتاحة أسبابه وتضع القوانين وترعى التوافق المجتمعى على طرق تغطية تكلفته الحقيقية، وضمان تكافؤ الفرص بين المواطنين في الحصول عليه.

نعم، التعليم يجب أن نوفره كما نوفر الماء لكن تطهير المياه وتوصيلها في شبكات وإنشاء محطات الرفع ورواتب العاملين على ذلك وتكلفة الصيانة والتوسعات كلها تتطلب تكلفة كبيرة، تجعل منح المياه دون مقابل مستحيلا كما أنه يهدد بالإهدار. وأما الهواء فكلنا يعرف تكلفة الخروج لشم الهواء أو السفر لتغيير الهواء!

والتعليم كما قال عميد الأدب العربى كالماء والهواء يحتاج إلى تكلفة كبيرة، أهمها رواتب العاملين عليه، والتي تضمن لهم العزة والكرامة والحياة الآدمية حتى يتمكنوا من غرس العزة والكرامة والآدمية في نفوس النشء.

ويلى ذلك تكلفة بيئة التعليم والتي يمكن أن نتقبل فيها حلولا خارج الصندوق لتقليل التكلفة دون المساس بالأساسيات وأهمها الكثافات التي تسمح بتعليم حقيقى.

وإذا نظرنا لتجارب أغنى دول العالم فسنجد أنهم قد توافقوا على طرق تغطية تكلفة التعليم قبل الجامعى، ثم طرق ضمان تكافؤ الفرص في التعليم العالى، عن طريق المنح للمتفوقين والقروض الميسرة لغير المتفوقين بشرط التوافق مع متطلبات سوق العمل.

مشكلة التعليم في مصر ككل مشاكلنا هي مشكلة ثقافية بالأساس، حيث اننا وخلال ستين عاما صدقنا شعارات جوفاء ولم نشغل أنفسنا بالتفكير في توفير سبل التعليم، وأعتقد أن الوقت قد حان لتغيير ذلك.
الجريدة الرسمية