رئيس التحرير
عصام كامل

توفيق الحكيم يتذكر يوم مولده

الاديب الكبير توفيق
الاديب الكبير توفيق الحكيم

في مثل هذا اليوم 9 أكتوبر عام 1898 ولد الأديب الكبير توفيق الحكيم "رحل عام 1987"، وفى كتاب أصدره الكاتب جمال الغيطاني بعنوان "توفيق الحكيم يتذكر" يتحدث الأديب الكبير عن يوم مولده فقال:


لم يرني والدي يوم ولدت، كان متغيبا في عمله بعيدا في بلدة صغيرة من بلاد الريف، وكان وقتئذ وكيلا لنيابة مركز السنطة، فترك والدتي لتلدني في بلدها الإسكندرية حيث تتوافر لها العناية اللازمة.

وفى حي محرم بك بمنزل أختها الكبرى هبطت إلى الدنيا وقد بعث زوج خالتي.. أي عديل أبي بخطاب إليه يقول فيه: "أرسلنا إليكم اليوم تلغرافا تبشيريا بقدوم نجلكم السعيد فقد رزقتم ولدا فأطمئنكم وأهنئكم، وقد رأيته صباح اليوم ووجدته مثل أبيه لكن بدون شوارب".

وفي دفتر خاص بولدي عثرت عليه كتب فيه يقول: تحرر إلى خطاب من عديلي يطلب تسمية المولود، ولم أوفق إلى اسم، فحررت خطابا إلى عديلي بأني فوضت الأمر إلى والدته في التسمية، ثم ذهبت في آخر الأسبوع إلى الإسكندرية لأزور زوجتي فوجدتها متحسنة الصحة وأخبرتني أن الغلام سمي باسم حسين توفيق الحكيم.

هذا ما كتبه أبي أيام مولدي ولست أعرف بالطبع عن اللحظة التي ولدت فيها شيئا، وهذا من سوء حظي، فمن سوء حظ البشر جميعا أن نولد في غيبوبة تامة من عقولنا.. ترى ماذا كان يحدث لو أننا واجهنا الحياة بعقول مدركة منذ اللحظة الأولى.

لكن الحياة تنكشف لنا على مهل سترا بعد ستر وحجابا بعد حجاب وتمزق من حولنا الأغلفة غلافا بعد غلاف، فنعتاد الحياة ونغفل عن الأعجوبة فيها.

روت والدتي فيما بعد أني هبطت إلى الدنيا في صمت دون بكاء أو صخب، وسألت القابلة لماذا لا يبكي ويصيح ككل المواليد الأصحاء؟ والتفت الجميع ناحيتي فوجدوني أنظر ـــ كما زعموا ــ إلى المصباح وإصبعي في فمي شأن المتعجب.. وياله من زعم.

قيل عندما كبرت إني كنت مجهدا من شدة الجذب إلى هذه الدنيا وأني آثرت الصمت بخلا أو اقتصادا في صياح لا طائل تحته، ومع ذلك فلماذا لا تحاك مثل هذه الأساطير عن ساعة الميلاد إلا فيما بعد دائما عندما تحدد لنا صورة ما في المجتمع الذي نعيش فيه، كذلك في ساعة الوفاة.. ساعة نولد وساعة نموت.. ساعتان يلعب فيهما خيال الآخرين لأنهما ليستا في حوزتنا.

لا أستطيع بالطبع أن أصف الحجرة التي ولدت فيها.. لكنه على أية حال كان زوج خالتي ميسور الحال يعمل في الدائرة السنية، وفي سن الخامسة رأيت هذا البيت، وكان مكونا من طابق واحد به حديقة وتكعيبة عنب خيل إلى يومها أنها حرش من الأحراش.

كانت أسرة والدتي من أهل البحر ممن أطلق عليهم البوغازية. ويظهر أن أصلهم من الترك أو الفرس أو البانيا لا أدري بالضبط.

سحنة والدتي وجدتي ذات عيون زرقاء تنم عن أصل غريب، على كل حال لم أرث أنا ولا شقيقتي هذه الزرقة ولا ما يقرب منها، لأن سحنة والدي الفلاح القح كانت قديرة فيما يبدو على صبغ بحر أزرق بأكمله.

ذكرت لي والدتي أن جدها واسمه ميلاد البسطامي من فارس وأنه يمت بصلة إلى أبي يزيد البسطامي الصوفي المعروف. تعلمت هي القراءة والكتابة فتميزت عن أمها وأختها الكبرى وأصبحت أكثر تنوّرا عن كل بنات جيلها.

جدي لوالدي كان على ذمته أربع زوجات ولكل زوجة أو مطلقة أولاد، وكان يملك ثمانين فدانا وكان لا يفرق بين أولاده إلا عن طريق ملابسهم هذا ابن خديجة وهذا ابن عزيزة أو ابن ستوتة.

كان والدي ابن الزوجة الأولى، وقد ماتت وهو صبي ولا أعرف بالضبط تفصيلات طفولته ولا ظروف تربيته الأولى فقد كان بطبعه جدّيا قليل الكلام.
الجريدة الرسمية