رئيس التحرير
عصام كامل

الإبداع والمخدرات "2"


إذن.. ليست هناك إجابة "علمية" قاطعة على وجود علاقة شرطية بين الإبداع وبين تعاطى المواد المخدرة. المقال السابق نوَّه إلى أنه إذا كان هناك مبدعون بالمخدرات، فإن هناك آخرين يبدعون حتى الرمق الأخير من حياتهم دون الوقوع تحت سطوة "الكيف القاتل".


وضربنا مثلًا بالفنان التشكيلى "جاكسون بولوك" الذي أبدع أشهر لوحاته بعد تعافيه الكامل من الإدمان وخروجه من المصحَّة التي أقام فيها فترة للعلاج. كما أشرنا إلى أن الدراسات العلمية المتخصصة في هذا الشأن شحيحة جدًا. وهذه كانت مفاجأة أيضًا، رغم شيوع هذه القضية وانتشارها عالميًا، وارتباط عدد غير محدود من الفنانين والعلماء والمخترعين بالمخدرات والخمور، والتورط الدائم لبعض المبدعين، أو المُنتسبين إلى العملية الإبداعية بتنويعاتها المختلفة في قضايا حيازة وتعاطى المخدرات، رغم تأثيمها دينيًا وقانونيًا.

غير أن العامل المشترك في هذه الدراسات هو إجماعها على تأثير المخدرات "السلبى" على المخ والجسد، بدرجات متفاوتة.
من بين هذه الدراسات التي عُنيتْ بهذه القضية، دراسة حديثة أجرتها إحدى الجامعات المجرية، وكانت تهدف إلى حسم العلاقة بين المخدرات والإبداع، والبحث في كونها حقيقة، أم مجرد خرافة وأسطورة ووهم، وكان الباحثون يتطلعون إلى الوصول إلى "القول الفصل" في هذه العلاقة، إلا أن هذا لم يحدث يقينًا. واللافت أنهم عانوا أيضًا من قلة الأبحاث والمراجع العلمية ذات الصلة!!

وبعد عمل بحثى دؤوب، انتهت الدراسة المجرية إلى أنه لا يوجد بالفعل "رابط مباشر" بين هذين العاملين، غير أنها نوَّهتْ – في الوقت ذاته- إلى أن العقاقير المخدرة لديها القدرة على تغيير النهج الفني للشخص بشكل كبير، لكن هذا لا يؤدى بالضرورة إلى زيادة الإنتاج الإبداعي للشخص المُتعاطى.

قد لا يروق لك التأكيد بأنَّ هناك فنانين ومبدعين ومخترعين حقيقيين، عاشوا طويلًا وأبدعوا وتوهجوا، دون اللجوء إلى تناول المخدرات، ولا تعتبره دليلًا قاطعًا على غياب العلاقة الشرطية بين الإبداع والمخدرات، ولكن قد تتغير قناعتك قليلًا عندما أضرب لك الأمثال بالمبدعين الذين أنهى "المزاج" حياتهم مبكرًا جدًا.

الموسيقى العالمى "جيم مورسون" واحدٌ من هؤلاء العباقرة، الذين عرفوا طريقهم إلى الشهرة في سن صغيرة، من خلال إبداعاته المدهشة، إلا إن إدمانه كان سببًا مباشرًا في إنهاء حياته، قبل أن يُنهى عامه السابع والعشرين.

وفى مصر.. نماذجُ كثيرة جدًا، في الغناء والشعر والتمثيل، ولكننا سوف نلتزم بالقاعدة الأخلاقية: "اذكروا محاسن موتاكم"، لكن ما يمكن تأكيده هو أن معظم المبدعين الذين اقترنت أسماؤهم بإدمان المخدرات، محليًا وعالميًا، لم يكونوا الأفضل بين أبناء جيلهم ولا الأكثر شهرة وإبداعًا، بدليل أن المُخرجَين اللذين تم ضبطهما مؤخرًا بتهمة حيازة وتعاطى المخدرات ليسا الأشهر والأكثر تميزًا في عملهما، بل إن الفشل الفنى والتجارى كان قرينًا لأفلامهما خلال السنوات الأخيرة.

وبشكل عام.. لو كانت المخدرات مُحفزًا على الإبداع، لتحولت المصحَّات العلاجية، إلى منصات إبداعية، ولأصبح المدمنون، كلٌّ في مجاله، مبدعين وعباقرة، وليسوا وصمة في حق أنفسهم وذويهم. وأغلب الظن أن الربط بين التعاطى والإبداع مجرد خرافة تنتمى إلى أمواج التخاريف التي تسكننا ونسكنها، حتى لو اعترض "المزاجنجية" و"تجار الكيف"!
الجريدة الرسمية