رئيس التحرير
عصام كامل

مراكز إحساس الوطن


تقدم منصات البث التدفقي والبث حسب الطلب مثل نيتفلكس و«إتش بي أو» خدمة عظيمة لمشاهديها، من خلال مجموعة مسلسلات متناهية الصغر، يمتزج فيها التوثيق مع الدراما، لتمنح الجمهور فرصة استعادة قصص وحكايات من الواقع شكلت التاريخ الحديث خصوصا.


وأبرز الأمثلة على ذلك مسلسلا «Chernobyl» و«When They See Us»، اللذان عرضا مؤخرا على الشبكتين الأشهر عالميا، والأول يتكون من خمس حلقات، مقابل أربع حلقات فقط للأخير.

يحكي المسلسل الأول قصة كارثة تشيرنوبيل النووية في أوكرانيا في أبريل 1986، والتي امتدت آثارها المدمرة إلى خارج الجمهورية السوفييتية السابقة، وما تلى ذلك من جهود لاحتواء الموقف وتنظيف المكان، ويعتمد المسلسل في جزء كبير منه على ذكريات السكان المحليين في بريبيات.

أما مسلسل «When They See Us» فهو يوثق دراميا القصة المعروفة إعلاميا بـ «قضية فتيان سنترال بارك»، والتي تبدأ بوقوع جريمة اغتصاب سيدة (بيضاء) في متنزه سنترال بارك العام 1989 في نيويورك، إضافة إلى عدة جرائم أخرى تتعلق بالشروع في القتل والاعتداء على آخرين.

وتتهم الشرطة خمسة فتيان سود، وتبدأ في تلفيق التهم إليهم وتجبرهم على الاعتراف بجرم لم يرتكبوه، ورغم عدم توافر دليل مادي على ادعاءات الشرطة، إلا أن المحلفين ينتهون إلى إدانة الصبية الخمسة، بشكل يعكس الاتجاه العنصري داخل المجتمع الأمريكي – آنذاك – نحو السود.

ومن خلال مشاهدتي للمسلسلين، لفت انتباهي أمران مهمان أولهما هو الرابط بين العملين، وهو حقيقة أخلاقية لا يمكن نكرانها تتمثل في أن «الكذب هو الكارثة الحقيقية»، ففي «Chernobyl» تصر الحكومة السوفييتية على إخفاء الحقائق والكذب بداعي أن التصريح بالمعلومات من شأنه أن يفاقم الأمر، غير أن ما فعلته الحكومة كان السبب الحقيقي في تفاقم الأزمة التي تسببت في وفاة ما بين عشرة آلاف إلى أكثر من تسعين ألف شخص نتيجة إصابتهم بسرطان الغدة الدرقية المميت، حسب منظمات دولية.

كذلك تتمثل أزمة «قضية فتيان سنترال بارك» في كذب المحققين وتلفيقهم للتهم وإجبار الفتيان على «الشهادة الزور» و«الاعتراف» بجرائم لم يرتكبوها، من أجل وإغلاق القضية وإدانة «السود»، كي يظهر للرأي العام أنهم «قنبلة» تهدد أمن «المجتمع الأبيض».

إذن فالكذب والتزييف هو العامل المشترك بين العملين، اللذين يذهبان إلى أن نشر الحقائق وإعلانها هو الضمانة الموثوقة للخروج من أي أزمة والحد من آثارها المدمرة، وأن الكذب مهما كانت دوافعه (وطنية أو دينية أو قومية) لا يمكن أن يكون طوق النجاة.

نأتي للملاحظة الثانية، وهي تتعلق بالمسلسل الثاني، في إحدى الحلقات يظهر الرئيس الحالي دونالد ترامب في تسجيل «حقيقي» لبرنامج تليفزيوني يتحدث فيه عن إعلانات بلغت قيمتها نحو 85 ألف دولار نشرها إمبراطور العقارات –آنذاك– من أجل تأجيج مشاعر الأمريكيين تجاه الفتيان «السود» مطالبا بإعادة العمل بعقوبة الإعدام «لردع هؤلاء المجرمين»، وذلك حتى قبل أن تصدر إدانة رسمية وحكم نهائي من المحكمة..

وهكذا ينبش الإعلام الأمريكي في تاريخ ترامب العنصري، وهو أمر معروف ومحسوم، لكن الجدير بالملاحظة هو أن أحدا لا يتهم صناع العمل «الأمريكيين» بعدم الوطنية، لكونهم يتحدثون عن «الرئيس».

ويشكل الإعلام (بما في ذلك الفنون والصحافة) واحدا من أهم الروافد المغذية للضمير الوطني لأي دولة، تماما مثلما يعول على القضاء الحر والمعارضة والمجالس النيابية والرقابية المستقلة.

ذلك الضمير الذي يعادل مراكز الإحساس في الجسد، والتي تنبه «المخ» عن طريق الألم بأن هناك خطرا، ما يؤدي إلى إطلاق صافرات الإنذار ودفع «المناعة» للتعامل مع الخطر، ليظل الجسد حيا.

تخيل معي جسدا بلا مراكز إحساس تتألم إذا أصابه فيروس، ترى كيف تكون النتيجة؟! لا تخونوا ضمير الوطن، فالألم أول الطريق للنجاة.
الجريدة الرسمية