رئيس التحرير
عصام كامل

مدن المستقبل.. المدن الرشيقة كنموذج


في سبتمبر ٢٠١٨ أصدر global future council on cities and urbanization التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) تقريرا عن رؤيته لمدن المستقبل، تحت مسمى "المدن الرشيقة agile city - التحضير للثورة الصناعية الرابعة"، تضمن التقرير معايير وعشرين تجربة لمدن استطاعت التغلب على تحدياتها نحو إعادة تطبيق هذه التجارب، وتوأمتها مع مدن أخرى لمواجهة التحديات التي تواجه العالم.. التقرير لا يمثل معايير جامدة وإنما تجارب مدن ملهمة.. هناك تصنيفات ومسميات المدن الجديدة ظهرت في الآونة الأخيرة بدءا من الخضراء والذكية إلى المرنة والثقافية.


إن إحداثيات الثورة الصناعية الرابعة أصبحت واقعا عالميا، وأنهت المفهوم التقليدي للصناعة تدعمه محددات العولمة إلى جانب تغير شكل الاقتصاد العالمي، الذي شكل المدن القديمة، ففي عام ٢٠١٦ أصبحت قائمة أكبر عشر شركات عالمية تسعة منهم تعمل في نطاق التكنولوجيا، رغم أنه في ٢٠٠٦ كانت شركات الطاقة تتصدر المشهد بما يغير خريطة الاستثمار العالمي في ظل إحداثيات العولمة، لذا فإن الدافع نحو تطور مفهوم المدن اصبح واقعا مع حلول الثورة الصناعية الرابعة، كتطور تقنيات الذكاء الصناعي وإنترنت الجيل الخامس internet of things الذي يحقق ترابط كل الأجهزة بالإنترنت..

وبالتالي تصبح المدن الرشيقة من دعائم الاقتصاد الرقمي وعوامل جذب الاستثمار الأجنبي لذا فإن الهدف من مدن المستقبل ليس كصيحة معمارية حضارية فقط وأنما حلول حتمية فعلية لمشكلات تتفاقم وتكنولوجيا قادرة على الحلول، لذا وجب تحويل هذه المدن إلى مدن ذكية لحل مشكلات متراكمة وتزداد تعقيدا.

مع ارتفاع الدخل وزيادة سكان العالم إلى جانب تناقص ميزانيات المحليات.. ورغم أن احصائيات البنك الدولي تؤكد أن ٥٤ ٪؜ من سكان العالم يعيشون في المدن فإنها بحلول عام ٢٠٥٠ نسبة قاطني المدن بالبلدان النامية سيتخطي ٧٠٪؜ : ٨٠٪؜، فيؤدي لزيادة الكثافة السكانية والتلوث الذي يؤثر ويتأثر بالتغير المناخي ومعدلات الجريمة، وتفاقم مشكلات النقل بدرجات يصعب السيطرة عليها، فكل هذه المخاطر تقوض جهود التنمية المستدامة..

وتتطلب حلول ذكية مثل احصائيات استهلاك الطاقة نحو الترشيد ومبادرات تتشارك فيها أطراف المصلحة في المجتمع لتواجه التحديات، وتعد استثمارات المدن الذكية دافعا ومحركا اقتصاديا لتوفير التمويل لتحقيق الاستدامة، وبما يصنع فرصة حتمية لتكامل الاقتصاديات من القطاع العام والخاص في تطوير البنية التحتية، خاصة في ظل حلول تكنولوجية قادرة على تحسين جودة الحياة وتحقيق التوازن المطلوب.

أن أزمة البشرية ٢٠٥٠ حيث سيصل عدد السكان في العالم سيصل إلى ٩.٦ مليار نسمة وسنحتاج إلى ما يعادل ثلاثة أمثال كوكب الأرض لتوفير الموارد الطبيعية لاستمرار أنماط الحياة الحالية، رغم أنه حاليا ٨٠٥ مليون شخص في العالم ليس لديهم غذاء كافي، وبالتالي سيصبح الجوع والعطش ثم التلوث المدمر إخطارا تواجه السلام العالمي، ففي بداية ٢٠١٦ أصدرت منظمة الأمم المتحدة أهداف التنمية المستدامة ال١٧ SDG وعبرت مصر عن التزامها نحو المجتمع الدولي باصدارها خطة التنمية المستدامة ٢٠٣٠ ولكن ما زالت التحديات قائمة لذا يشرع الخبراء والعلماء على إيجاد حلول علمية وتكنولوجية لمواجهة الأزمة المرتقبة.

ميونيش كيترابال مدير “المدن الذكية وإنترنت الأشياء في سيسكو سيستيمز” وهى شركة تكنولوجيا وإحدى شركات وادي السليكون يؤكد أن هناك 3000 إلى 5000 مدينة تستعد لتطبيق المعايير.

إن تقرير الصادر عما أطلق عليه المدن الرشيقة يعتمد على إيجاد معايير للعناصر المادية كالبنية التحتية المتاحة حاليا أو المطلوبة في حدود المتاح والمقبول والعناصر الرقمية لتسخير التكنولوجيا لتحليل احتياجات المواطنين وتحقيقها إلى جانب العناصر البيئية وكيفية السيطرة على آثار النشاط الحضري على البيئة.

في ظل تحديات الثورة الصناعية الرابعة تحتاج المدينة الرشيقة إلى تحقيق تطور ومتابعة تنمية مستمرة، مثلها مثل الكائن الحي لتحقيق تنمية مستدامة بداية من تحقيق المعايير على المباني الرشيقة ثم استخدامات الاراضي الرشيقة ثم الطاقة والتنقل والتكنولوجيا إلى الأمن والتعليم والحوكمة.

تجارب ناجحة تتواءم مع تعريف المدينة الرشيقة بدءا من ناطحات سحاب في نيويورك وإيطاليا تنتج من الطاقة أكثر ما تستهلك، وتصنف zero carbon إلى إعادة استخدامات الأراضي بدءا من دول نامية مثل الإكوادور لتوفير الغذاء للفقراء، إلى تجربة سنغافورة لتطوير التخطيط بما يناسب احتياجات المواطنين، مثل شبكة المشاع والدراجات وإدارة النفايات، إلى تجربة ملبورن - أستراليا في غلق طرق غير مؤثرة لتحويلها إلى مناطق خضراء للتنزه.

تجربة الدنمارك في الاعتماد على التكنولوجيا لتوفير الطاقة والتغلب على مشكلة تقلب مصادر الطاقة الشمسية والرياح تكاملت مع العدادات الذكية، لتحديد سعر أقل في أوقات معينة لتحفيز المواطنين للاستهلاك في توقيت السعر المتدني.

تجربة الإكوادور باستخدام تطبيقات الموبايل لتحفيز المواطنين ماديا لاستخدام الحافلات الكهربائية والدراجات، أيضا تجربة سنغافورة لنظام التسعير الإلكتروني للطرق، ويتيح للمواطن الاختيار بين المواصلات العامة أو سيارة خاصة أو اجرة. وتجربة دبي في تطبيقات التكنولوجيا للإدارة والتنقل والطاقة والبيئة والاقتصاد والتعليم والصحة لتصبح أول مدينة blockchain في ٢٠٢٠، اما تجربة بوسطن اعتمدت على التكنولوجيا في خلق قاعدة بيانات لاستقصاء واستشارة المواطنين نحو رفع مستوى جودة الحياة.

إن تجربة نيويورك الأمنية لإنشاء قاعدة بيانات وإحصائيات ورصد جنبا إلى جنب مع تدريب مكثف للشرطة، اما في ديترويت فإن نظم المراقبة الذكية قلل نسب الجريمة ٥٠٪؜، اما تجربة البرازيل الأمنية قلصت جرائم القتل إلى الخمس اعتمادا الضوابط ونشر الشرطة المجتمعية والتكنولوجيا.

أما في نطاق التعليم فإن معهد ستريلكا بموسكو عمل على إشراك الجماهير المختلفة وعمل محاضرات وأفلام لدمج المجتمع، وهناك برامج التعليم التجريبية العالمية في خليج سان فرانسيسكو، وادي السيلكون حيث لا معلم ولا شهادة وتهدف إلى التعليم التقني اما في أمستردام فهناك الجامعة تحت الأرض كملهي ليلي للتغلب على حدود الدول والثقافات والثوابت.

أما عن تجربة الحوكمة الرشيدة فقد كان التصويت الإلكتروني في موسكو دافعا لشراكة المجتمع، اما تجربة الدنمارك فقد ركزت على قضايا التكيف مع المناخ من خلال تحسين التنظيم وإدارة المياه، فقد اتخذت الحكومة نموذج كرة الثلج لاستشارة أطراف المصلحة، أما البرازيل فقد نجحت في دمج الشباب في الحوار السياسي، أما تجربة الإمارات فكانت السعادة كمعيار لرضا المواطن عن مستوى الخدمات التي تقدمها الجهات الحكومية.

إن طريق تحقيق رؤية مصر ٢٠٣٠ للتنمية المستدامة ينطلق من خلال ثلاثة محاور، التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، وما زال الطريق طويلا نحو صياغة مدننا المصرية القديمة والحديثة نحو المعايير العالمية، ولكن مستوى الإنجاز والجهد الذي تحقق في تشييد هذه المدن هو بارقة امل نحو صياغة مجتمع جديد، يرسم مصر الحديثة ويرتكز على معايير المدن الرشيقة لترصد المؤسسات الدولية تجارب نوعية لمدن مصرية تواكب الثورة الصناعية الرابعة.
الجريدة الرسمية