رئيس التحرير
عصام كامل

العالمُ السرىُّ لدولة التلاوة!


لا يحظى عالمُ قُراءِ القرآن الكريم في مصر، بأىِّ اهتمام إعلامي أو درامى يُذكر، باستثناء محاولاتٍ موسميةٍ مُكررة باهتة، تنقلُ عن بعضها، ولا تقدمُ جديدًا، كما أن الكتاباتِ التي تصدَّتْ للتأريخ لهم والحديث عنهم، خلتْ من الروح النقدية الجادة، وعدمتْ المعلوماتِ الوافرة، بل سيطرتْ عليها، أحيانًا كثيرة، حالة من العاطفة غير العاقلة وغير العادلة وغير المُنصفة.


ورغمَ الشهرة الكبيرة التي حققتها الأجيالُ الأولى من القراء، مَحليًا وعالميًا، وكانوا قوة ناعمة فاعلة، إلا إنَّ الإعلامَ المصرى بوسائله المتعددة والمتنوعة، وعلى مرِّ تاريخه، اتخذ منهم، سهوًا أو عمدًا، موقفًا مُناهضًا، ولم يسعَ إلى إنصافهم وإبراز أدوارهم ومواهبهم وإبداعاتهم، فضلًا عن كواليس حياتهم، كما يفعلُ مع الفنانين والفنانات، الراقصين منهم والراقصات!

قبلَ عشر سنواتٍ.. ذهبتُ إلى رئيس قناة النيل الثقافية بمكتبه في ماسبيرو، بفكرة برنامج، وأثناء المقابلة تطرقَ الحديثُ بيننا إلى القارئ الكفيف "محمد رفعت "، المُتوفَّى في عام 1950، وكان لهذه المعلومة علاقة مباشرة بالفكرة، حيث باغتنى ضيفى متسائلًا في استغراب ودهشة وجدية: هو الشيخ رفعت مات، وكان كفيف كمان؟

فلم أعقبْ، ولملمتُ أوراقى ورحلتُ مصدومًا ولم أجدْ داعيًا لاستكمال المقابلة، وأدركتُ يومئذٍ، أنه لا صلاحَ لأمر ماسبيرو، طالما احتلتْ هذه الكائناتُ الغريبة المناصبَ القيادية، واستقرَّتْ فيها حتى بلوغ المعاش، إنْ لم يتم التجديدُ لهم، تقديرًا على سوء إدارتهم، وتوالى الفشلُ حتى اعتبرنا إذاعة تلاوة قديمة خلالَ شهر رمضان، إنجازًا لا يجاريه إنجاز، وإعجازًا لم تأتِ بهم الأوائلُ.

إذاعة القرآن الكريم نفسُها.. لم تفكرْ يومًا في إنتاج حلقاتٍ إذاعيةٍ، عن العالم السرى لأعلام التلاوة، من البدايات إلى النهايات، مرورًا بمحطات النجاح والشقاء، ومعرفة أسماء من تتلمذوا على أيديهم، حتى بلغوا ما بلغوه، حيثُ لا تزال أولُ إذاعة للقرآن الكريم في العالم، تمارسُ مراهقة إعلامية مثيرة للشفقة والاستياء في آنٍ واحدٍ، لا تليقُ بتاريخِها وريادتها، ولو كره الكارهون.

يجبُ أن يعرفَ الناسُ التاريخَ الناصعَ لنجوم دولة التلاوة، بدءًا من الشيخ على محمود، والشيخ محمد رفعت والشيخ عبد الفتاح الشعشاعى، ومن سبقوهم بإحسان، ممن لم يعاصروا نشأة الإذاعة، مرورًا بالشيخ مصطفى إسماعيل وطه الفشنى وكامل يوسف البهتيمى وآل المنشاوى والحُصرى وعبد الباسط والبنا وأبو العينين شعيشع والطبلاوى ونعينع وآخرين. كانوا ولا يزالون خالدين بأصواتهم وتلاواتهم وعطائهم لكتاب الله.

يجبُ أن يعرفَ الناسُ السيرة الذهبية لعائلة آل المنشاوى: خالد الذكر الشيخ محمد صديق المنشاوى ووالده -رحمهما الله- وشقيقه الشيخ محمود- شفاه الله- وكيف أثرَتْ هذه العائلة القرآنية عالمَ التلاوة، وكيف كان يُضربُ بأبنائها المثلُ في عزة النفس والكرامة، كما يجبُ أن يعرفوا عطاءَ آل الشعشاعى: الشيخ عبد الفتاح وابنه الشيخ إبراهيم، وكيف شكلا مدرسة خاصة ومتميزة في تلاوة القرآن الكريم، ويكفى أن أحدًا لا يستطيع أن يجاريهما صوتًا وأداءً.

يجبُ أن يعرفَ الناسُ المشقة التي تجشَّمها القراءُ مَكفوفو البصر الذين لم يُحرَموا نعمة البصيرة، فحفظوا كتابَ الله تجويدًا وترتيلًا، وجابوا به العالم، وطبَّقتْ شهرتُهم الآفاقَ، مثل: محمد رفعت وعبد العزيز على فرج، ومحمد عبد العزيز حصَّان، رحمهم الله. 

يجبُ أن يعرفَ الناسُ كيف كان يستقبل العالمُ قراء مصر، وكيف كان الملوكُ والرؤساءُ والحُكامُ يُكرمونهم، ويُحسنون ضيافتهم، ويجزلون لهم العطاء، ويمنحونهم الأوسمة والنياشين، ويُنزلونهم خيرَ المنازل.

يجبُ أن يعرفَ الناسُ مَن مات من هؤلاء القراء مُبكرًا مثل: المنشاوى والبهتيمى والسنديونى، ومن عَمّرَ منهم مثل: أحمد محمد عامر ومحمد أحمد شبيب، رحم اللهُ الجميع.

يجبُ أن يعرفَ الناسُ النهاياتِ الأليمة التي أنهتْ حياة بعض القراء مثل: محمد رفعت ومصطفى إسماعيل والمنشاوى ومحمد الليثى والشحات محمد أنور.

يجبُ أن يعرفَ الناسُ سيرة المُعلم الكبير الشيخ محمود خليل الحصرى، وتفانيه في خدمة كتاب الله، فالرجلُ صاحب تاريخ حافل، وليس أقلَّ شأنًا ممن تم تقديمُ سيرتهم الذاتية في مسلسلات تليفزيونية طويلة، إن لم يتفوقْ عليهم علمًا وإنتاجًا وذكاءً.

يجبُ أن يعرفَ الناسُ أبناءَ القراء الذين خلفوا آباءهم في فن التلاوة، ويجب أن تُتاح لهم الفرصة في وسائل الإعلام؛ لكى يتحدثوا عن نشأتهم في بيوتٍ قرآنيةٍ، وعن آبائهم الذين كانوا مِلءَ الأسماع والأبصار، باعتبارهم إسوة حسنة ومثلًا أعلى وأولى من كل النماذج التي يتم تصديرُها في وسائل الإعلام، التي لا يفوتُها الاحتفالُ بذكرى وفاة الراقصة "الفُلانية"، ولا عيد ميلاد الفنانة "اللولبية".. استقيموا يرحمْكم اللهُ.
الجريدة الرسمية