رئيس التحرير
عصام كامل

دفتر العمر


تبدأ أولى صفحاته بصرخة صاحبه وتهليل من حوله فرحا بقدومه إلى الدنيا، وتطوى آخرها بصمت صاحبه وصراخ من حوله، حال مغادرته، وما بين دفتيه، خُطت ساعات وأيام وشهور وسنوات، أبلى فيها ما أبلى.


(من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله، كره الله لقاءه)، جال هذا الحديث الشريف، بخاطرى حينما استغرقت تفكيرا وإمعانا في أقدار الله في خلقه، وحتمية مصير كل إنسان في ملاقاة الموت، كونه المعبر وممر الانتقال إلى المستقر والملاذ الأخير، فحينما يمرض الإنسان مرضا عضالا تنتابه هواجس اقتراب الأجل والخوف والحذر من الموت، فيتجرد قلبه رويدا رويدا من التعلق بالدنيا وحبها، ليبدأ في التفكير في المرحلة الأخرى، ما بعد الحياة والموت.

حينما يشتد المرض على الإنسان ويدرك أنه لا محالة قد اقترب من الوسيلة الانتقالية إلى المحطة الأبدية يلوذ بالصمت، وينشغل تفكيره فيما بعد أداء مأمورية الدنيا إلى سكون الآخرة.

قالها لى الصديق الذي يتأمل الموت الذي يُسقط الواحد تلو الآخر من أصدقائه إما بغتة أو بداء: «لا أخفى عليك سرا أننى أترقب الموت في كل لحظة، بل وأنتظره، ولا أخشاه لثقتى التامة في عفو الله ورحمته مهما أذنبت، وأتمنى من الله أن يتوفانى سليما على فراشي، دون مرض أو اختطاف مطول لحياة من حولى بسببي».

تداهمنا جميعا تلك الأمنيات، وحتى من يقنع نفسه بغيرها فهى مستقرة في وجدانه، ولكن حينما تطمئن الأنفس أن كل مكروه يصيبها هو ضريبة لما جنته سابقا، يُحصل منها أولا بأول، حتى تتخلص من أوزار الماضي، ويخلو الثوب من الدنس، وتذهب إلى مستقرها بلا سابقة ذنب، وقتها ترتاح العقول وتهدأ القلوب.

حينما ندرك أن الموت أمر واقع، ينقلنا من مرحلة صاخبة مليئة بالشقاء إلى أخرى هادئة في معية رب رحيم، وقتها نودع الخوف منه، ونؤمن تمام الإيمان حبا وطواعية أننا مملوكون لإرادة إلهية خلقتنا وبيدها كل نواصينا.

نعم ستهون وتصغر في أعيننا حروب زائفة خضناها في سبيل المال، والجاه، والنفوذ، والبغى، إلى أن تستوى الأمور ويتجسد نصب أعيننا في لحظة ما، قوله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ. وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ).

همست بها لنفسي، ولا أدعى علما دينيا ولا فضيلة، وقد أصبحت الهواجس عابثة برأسي أنا أيضا، ليل نهار، محدثا صديقي: «لاتخف من مرض أو موت، وثق أنها إرادته النافذة فيك، فلا تملك تغييرها أو تحويل مسارها إلا بالدعاء، فما كان داء عضالا ليس كراهية من ربك، بل يبتليك ليقربك إليه، ولكى يستقر في وجدانك أنك في معيته وحده بعيدا عن آفات الدنيا وآثامها».

ربما منا من يستعجل اللقاء، وقد أدرك فلسفتها منذ بداية الخلق إلى نهايتهم، أنفس تُخلق وأخرى تستوفى مكتوبها وتنتهى مهمتها، أوقات تمر وصفحات تطوى إلى غير رجعة من دفتر العمر المسطورة حروفه وأوراقه سلفا، فلا خوف ولا وجل، كل بوقته وموعده.
الجريدة الرسمية