رئيس التحرير
عصام كامل

ليس حنينًا إلى الماضى ولكنْ أملًا في المستقبل


بين عامي 1846 و1848، تراوح عدد سكان مصر بين 4 و4.5 مليون نسمة، وقفز في عام 1882 إلى 6.7 مليون، وفي عام 1897 بلغ 9.7 مليون، قبل أن يصل في عام 1917 إلى 12.7 مليون، ثم تدرج صعودًا حتى جاء عام 1947 ليبلغ 18 مليونًا.


ومع أول تعداد سكانى جرى في عهد جمال عبد الناصر، وكان في عام 1966، وصل عدد السكان إلى 28 مليونًا، وبعدها بـ 11 عامًا، قفز إلى 36.6 مليون، وعندما جاء العام 1986 كان عدد سكان مصر يكسر حاجز الـ 48 مليونًا، وبعدها بـ10 أعوام وصل إلى 61 مليونًا، وظل يتحرك مؤشر الزيادة صعودًا حتى زاد عدد سكان مصر على 100 مليون نسمة، وسط فشل ذريع للسياسات الحكومية المتعاقبة في كبح جماح زيادة سكانية لا ترحم.

غيرَ أنَّ اللافتَ في الأمر، هو أنه عندما كان عدد سكان مصر محدودًا، لم يكن يخلو مجالٌ ما أو دربٌ من دروب الحياة من موهبة لامعة أو نابغة يشار إليها بالبنان، من الغناء إلى تلاوة القرآن الكريم، ومن القانون، إلى السياسة، ومن العلوم إلى الفنون.

"مصطفى مشرفة" و"سميرة موسى" و"جمال حمدان" و"سمير نجيب" و"يحيى المشد" و"سعيد بدير".. علمًا وبحثًا، مثلًا وليس حصرًا.

"رفاعة الطهطاوى" و"زكى مبارك" و"طه حسين" و"توفيق الحكيم" و"عباس العقاد" و"نجيب محفوظ" و"يوسف إدريس" و"مصطفى محمود".. فكرًا وأدبًا، مثلًا وليس حصرًا.

"محمد الغزالى" و"محمد متولى الشعراوى" و"عبد الحليم محمود" و"محمود شلتوت" و"جاد الحق على جاد الحق".. علماء دين أجلاء.. مثلًا وليس حصرًا..

"محمد رفعت" و"على محمود" و"مصطفى إسماعيل" و"محمد صديق المنشاوى" و"محمود خليل الحصرى" و"محمود على البنا" و"عبد الباسط عبد الصمد" و"سيد النقشبندى" و"نصر الدين طوبار".. تلاوة وإنشادًا.. مثلًا وليس حصرًا.

"سيد درويش" و"محمد عبد الوهاب" و"أم كلثوم" و"محمد عبد الوهاب" و"بليغ حمدى" و"محمد الموجى".. غناءً وتلحينًا، مثلًا وحصرًا.

"طاهر أبو فاشا" و"أسامة أنور عكاشة" و"محفوظ عبد الرحمن" و"عبد الرحمن الشرقاوى" و"إسماعيل عبد الحافظ" و"يحيى العلمى".. إبداعًا لا ينضب، مثلًا وليس حصرًا.

"جلال معوض" و"سامية صادق" و"محمود سلطان" و"فاروق شوشة" و"أحمد فراج".. إذاعيين وإعلاميين، مثلًا وليس حصرًا.

كانت شمسُ مصر لا تغيب في كلِّ مجال، واسمُها حاضرًا بقوة في كلِّ فن، ورايتُها خَفَّاقة في كلِّ مَحفل، فماذا حدث.. هل عقمتْ البطونُ، وبارتْ الخصوبة؟

رغم تعاقب السنين، واختلاف الأزمنة، وتسارع وتيرة الحضارة والتقدم والمدنية، فضلًا عن الزيادة الجنونية في عدد سكان مصر، فإن المواهب الحقيقية في حالة متقدمة من الاختفاء والخمول والكسل القسرى.

المواظبون على الاستماع إلى القرآن الكريم مُجودًا، يرون أن دولة التلاوة انهارتْ أركانها، وزالتْ أعمدتها، برحيل آخر القراء الكبار الشيخ "عبد الباسط عبد الصمد"، ولم يتبق ولا يظهر سوى أصوات شائهة تائهة لا تملك موهبة أو شخصية، تسلل أصحابها بكروت التوصية من أصحاب الولاء والثقة.

وفى الغناء والموسيقى.. لم تنجبْ مصر موهبة في قيمة "الشيخ سيد" و"عبد الوهاب" و"أم كلثوم" و"بليغ" ورفاقهم، ممن أسسوا دولة الفنون، وجسدوا قوة مصر الناعمة في فترة من الفترات، ولا تزال هذه الأسماء وقود الأجيال الجديدة اقتباسًا وتقليدًا.

وفى عالم الصحافة.. لا نزال نترحم على "التابعى" و"أنيس منصور" و"مصطفى أمين" و"أحمد بهاء الدين"، وأصبحت المهنة بلا رموز أو أساتذة، والحال لا يسر حبيبًا، ولكنه يسر الأعداء والخصوم والأنذال.

القاعدة نفسُها تنطبق على الحياتين السياسية والنيابية، وفى المجال الأكاديمى، ومن تبقى من أسماء فهم إلى الكهولة أقرب، أما الأجيال البديلة، فلا يملكون حضورًا ولا يقدمون جديدًا، ولا يملكون إلى ذلك سبيلًا.

المؤكدُ أن الأرض المصرية لا تزال بخير، والموهبة لم تنضب، ولكن الأزمة تكمن في سياسة إغلاق الأبواب والنوافذ بالضبة والمفتاح، لأسبابٍ وعواملَ كثيرة، بعضها معلومٌ، وبعضها دون ذلك، وسوف أضربُ لك مثلًا بسيطًا ودالًا وكاشفًا؛ حتى لا تتهمنى بالغموض والمناورة وعدم الوضوح والصراحة: وهو قصرُ تقديم البرامج التليفزيونية والإذاعية وإنتاجها وتوفير الدعم المالى المفتوح لها، على راقصة معتزلة، أو ممثلة متعطلة، أو مطرب فاشل، أو مذيع سقيم الفكر، فهل بمثل هذه العقلية يمكن أن تتحرك مصرُ خطوة واحدة إلى الأمام؟ ونشجع الناشئة على الحلم والطموح؟ وقسْ على ذلك كلَّ شيء..

مصرُ تملك في ريفها وحضرها ما لم تملكه غيرها من جيرانها ومَن في مستواها من بلاد العالم، من مواهب ونوابغ وعباقرة في كل مجال، ولكنهم يحتاجون إلى من يمد لهم يد العون والمساعدة، من يفتح لهم الأبواب والمنافذ المُغلقة، من يُمهد لهم الطريق، ويضعهم على أولى خطوات الانطلاق.

تعطيلُ الناجحين، وإحباطهم، ونثر الشوك في طريقهم، ووضع المتاريس أمامهم، سياسة خائبة وعقيمة وقديمة وبالية ومُنكرة، يجب الإقلاع عنها، فالدول لا تتقدم بإعلان الحرب على أصحاب المواهب والطموح، وإبرام الصلح مع الفاشلين والمنبطحين وشمولهم بالرعاية والاهتمام وتصديرهم في مقدمة الصفوف.

إنْ كنتم تريدون مصلحة الوطن، ولا تبحثون عن مصلحة شخصية أو ذاتية.. ابدءوا من اليوم، وليس غدًا، سياسة جديدة تقوم على رعاية النوابغ في كل مجال، واشملوهم برعايتكم، ووفروا لهم أسباب النجاح والتميز والانطلاق، ولا تتركوها للصدفة، فهذا استثمار منقوص وغائب، تحتاجه مصرُ وتفتقده بشدة..
الجريدة الرسمية