رئيس التحرير
عصام كامل

اختبارٌ نفسىٌّ لـ"أصحابِ المقام الرفيع"


في بلدٍ مثل: الأرجنتين، يخضعُ المرشحون لنيل وظائفَ جديدة، لاختبارات نفسيَّة جادَّة وحقيقية، قبل اعتمادِهم بشكل نهائى.
الاختباراتُ لا تكونُ روتينية، ولا يمكنُ اجتيازُها نظيرَ "رشوة مُعتبرة" للقائمين عليها، ولكنها تشملُ حِزمة من المحاور والتفاصيل الدقيقة القادرة على فرز العناصر السليمة نفسيًا التي يمكنها تحقيقَ الأهداف المطلوبة منها، وتجاوز أية عقباتٍ أو مشاكلَ مُحتملة.


هذه مُقدمة لا بد منها، قبل التطرق لواقعة الأستاذ الأزهري الذي كان يجبرُ طلابه في كلية التربية، على خلع بناطيلهم وإظهار عوراتهم، وهى الواقعة التي وضعتْ جامعة الأزهر في مأزق، ومنحتْ بعض المتنطعين والذين في قلوبهم مرضٌ، الفرصة للسخرية والتطاول على الأزهر الشريف!

دعْكَ من الإجراءاتِ العقابيةِ السريعةِ التي اتخذتها الجامعة بحقِّ الأستاذ الجامعى وعددٍ آخر من مسؤولى الكلية، فربما يتم إلغاؤها قضائيًا، أو تخفيفُها إداريًا، ولكنَّ هذه الحادثة الغريبة ليستْ –بكلِّ أسفٍ- الأولى من نوعها، ولن تكونَ الأخيرة بطبيعة الحال، ولها دلالاتٌ قاسية ومؤلمة، يدركُها الصغيرُ قبلَ الكبير.

والسؤالُ: كيفَ ولماذا ينخرُ الفسادُ الأخلاقىُّ في بعض المؤسسات والجهات المُعتبرة؟ والإجابة باختصار غيرِ مُخلٍّ: عشوائية الاختيار، وتغليب الثقة على الكفاءة وأسبابٌ أخرى، لا تعلمونها، اللهُ يعلمُها.

اليومَ.. أستاذٌ جامعىٌّ يكشفُ عوراتِ طلابه داخلَ قاعات الكلية. وأمسِ.. أستاذٌ يبتزُّ طالباته جنسيًّا، وقاضٍ يطلبُ رشوة جنسية، وضابطٌ يقتل مُتهمًا، ويتاجرُ في المخدرات. وأمس الأول.. وزيرٌ يفسدُ ومحافظٌ يحصلُ على رشوة.. وهلمَّ جرّا.

الانحرافُ الأخلاقىُّ لم يعدْ مُقتصرًا على أصحاب الوظائف البسيطة والصغيرة، ولكنَّهُ أصبح يفرضُ سلطانه وجبروته على ذوى المقام الرفيع والألقاب الكبيرة والدخول المُتضخمة والنفوذ الواسع.. وصولًا إلى رجال الدين والتربية والأخلاقِ الحميدة!!

الذينَ يرفضونَ الاعترافَ بأنَّ انحرافَ الكبار يصلُ إلى حدِّ الظاهرة التي يجبُ النظرُ إليها باهتمام والتعاملُ معها، مُخادعون ومُناورون، ويتعامَون عن الاعتراف بالحقيقة المُرَّة. فسادُ أصحابِ الوظائف المُتميزة ناجمٌ عن أسبابٍ كثيرةٍ ومتعددةٍ، أبرزُها: تجاهلُ الضوابطِ الأخلاقية والمعايير النفسية، ما أفرزَ ويفرزُ فاسدين ومُفسدين في مواقعَ وجهاتٍ مُهمة وبارزة.

لو استدعى أهلُ الحلِّ والعَقد وصُنَّاع القرار التجربة الأرجنتينيةِ، أو التجربةِ الألمانيةِ، أو غيرهما من التجارب المُشابهة، لتطبيقها في اختبار المرشحين للوظائف المهمة نفسيًا، فلنْ نستيقظَ كلَّ يومٍ على فضيحةٍ أخلاقيةٍ، تخجلُ منها الحيواناتُ، بطلُها وزيرٌ أو مُحافظُ أو مديرٌ أو أستاذٌ جامعىٌّ أو مُعلمٌ أو قاضٍ أو ضابطٌ أو طبيبٌ.. وأحيانًا مدرسٌ في حضانة أو مُحفظٌ، أو شيخٌ مُعمَمٌ أو راهبٌ مُتبتلٌ.

لو تخلصنا من حالة اللامبالاة التي تسكنُنا، والإهمال الذي يسيطرُ علينا، وأخذنا الأمرَ على محملِ الجدِّ، وبادرتْ جهة حكومية أو خاصة، بتطبيق نموذج الاختبار النفسى على المتقدمين للالتحاق بها، فلا تقبلُ إلا مَن هو مؤهلٌ نفسيًا، ولا يُحتملُ تورطه في جريمةٍ أخلاقيةٍ، تلحقُ العارَ بالجهة والعاملين بها، فإننا نكونُ قد بدأنا إصلاحًا غائبًا ومفقودًا ومطلوبًا.

لماذا يتحملُ المجتمعُ انحرافا أخلاقيًّا ممن يوصفون بالنخبة وأصحاب الدرجات الوظيفية المتقدمة، أو من رجال دين لا يعرفون عن الدين شيئًا؟ وما الذي اقترفته طفلة مسكينة حتى يَهتكَ من أؤتمن عليها شرفَها؟ وما الذنبُ الذي ارتكبَه طفلٌ وهبه أبواه لحفظ القرآن الكريم، حتى يتحرشَ به مُعلمُه جنسيًّا؟ وما الذي جنته طالبة جامعية؛ حتى يُفقدَها أستاذُها المُوقَّرُ أعزَّ ما تملكُ؟

الأمرُ جدٌّ وليس هزلًا، التطهيرُ يجبُ أن يبدأ من المنبع وليس المصبِّ، فلا ننتظر حتى تقع الكارثة، ثم نبحثُ لها عن حلول.

أخضعوا أستاذ الجامعة والقاضى والضابطَ والمديرَ والوزيرَ والمحافظَ ورجلَ الدين، وكلَّ مَن تقتضى مهامُّ وظيفته التعاملَ مع الناس بشكل مباشر، قبلَ اختيارهم لوظائفهم، لاختباراتٍ نفسيةٍ جادةٍ وليستْ صورية؛ حفظًا للمجتمع، وصونًا لأبنائه، وحماية لأخلاقه.
الجريدة الرسمية