مذكرات الفاجومي.. موهوب بالحماقة
كل صفحة في مذكرات «الفاجومي» تكشف أن الصورة المأخوذة عنه ليست خاطئة، فعلًا هو المندفع، الموهوب بالحماقة، هذا ما قاله عن نفسه منذ الصغر، فهو الخارج عن الإطار، الرافض لكل القوانين، القادر على أن يفرض هويته ونفسه ضاربًا بأي حسابات عرض الحائط.
وضمن حكايا «الفاجومي» تظهر الصورة العامة لما عاشه الشاعر في الصغر، صورة الريف الفقير، التفرقة العنصرية بين الأغنياء والفقراء، وإن كان «نجم» يحكي ذلك على سبيل المزاح والسخرية لكن الأكيد أن ما شاهده كان سببًا أساسيًا في انتمائه الطبقى بعد ذلك.
ويبدأ «نجم» تلك الحلقة من مذكراته بالحديث عن والدته التي تؤنب إخوته لو تركوا فرضا من الصلاة ما عدا هو، «لو حد فاته فرض ربنا يا داهية دقي، قوم يا كافر يا بن الكافر، يا تارك الصلاة، يا قليل الدين، ماتاكلش معانا، والكل يبقى شمتان فيه، وأنا يا مبارك لا صلا ولا صوم ولا حيا وداير زي العقربة ألوش في خلق الله شمال ويمين وأشخط وأسب الدين وهي في الطناش، وأحيانًا لما يسأل حد من إخواتي اشمعنى ده تقوله دا عيان ومجنون وعنده داء الدفعة ودا صحيح مع الأسف، كانت بتقول تكفي العايب عيبته».
موهبة الحماقة هي من دفعت الشاعر الكبير وهو صاحب الـ14 عاما إلى الحب «وقعت قتيل متيم في هوى السنيورة "إكرام" بنت عمي "سليم" شيخ البلد، وربنا يجازي اللي كانوا السبب، استلموني ونزلوا زنّ على وداني، "إكرام" و"فؤاد" موهوبين لبعض، والنصيب غلاب وهكذا، وكان بينافسني في هوى "إكرام" "سعيد" ابن عمي "عثمان" اللي هو برضه شيخ بلد وابن عم أبويا يعني كلنا على بعض زيتنا في دقيقنا، وطبعا كان كل واحد فينا عنده أسبابه في هوى المحبوبة، لكنه كان غني وأنا سلاحي الوحيد إن إكرام بتحبني، ولما سألت ليه الأرزاق متقسمة كده، رحت لشيخ الجامع والكتّاب فقالي إنت فيك بذرة شيطانية».
لاحظ رد الشيخ على مراهق، لكن الفاجومي كان في جعبته الكثير، يكمل «قلت له بمنتهى البراءة، أستغفر الله العظيم يا سيدنا، أنا مسلم وموحد بالله، أنت بس اللي مش واخد بالك، أمي بتقول إن أعمامي هما اللي كلونا ونهبونا على حياة عين أبويا، فرد عليا أمك دي مهروشة والحشيش لحس مخها، قلت له برضه بمنتهى البراءة يظهر إن كلامك صحيح يا سيدنا، ابتسم ولأول مرة قال لي ليه يا وله..
قلت له أنا باقول لها ماتزعليش يامّة وأنا هخلي سيدنا يفضحهم على المنبر في صلاة الجمعة، قعدت تضحك وبعدين قالت جاك شهر حزن وشهرين نيلة عليك وعلى سيدنا بتاعك، وقالت عليك يا سيدنا إنك راجل بكرش وبتاكل على كل طبلية، وإنك بتفتي على النملة وتبلع الجمل، وإنك مش حتعرض على جنة ولا حتتدفن في طرب مسلمين لأنك راجل ضلالي، ولسه هاكمل راح صارخ في وشي بس كفاية، انت مين مسلطك عليّ النهارده وجاب شومة وجرى ورايا».
ورغم تأكيد "أحمد فؤاد نجم" إنه فعل ذلك بمنتهى البراءة إلا أنني بمنتهى الصدق لم أصدق أن تلك براءة قدر ما كانت قصدًا.
صورة أخرى للحماقة ولترسيخ مفهوم الغنى والفقر، وذلك في الكتّاب، إذ يقول "أحمد فؤاد نجم" «الشيخ أبو عطية راجل جهول وغليظ وبيضرب فينا طول ما احنا قاعدين، وأهالينا هما اللي شجعوه على الخصلة السودا ديه، وكانت أجرة سيدنا بتندفع له على المحصول، الغني يديله على الراس كيلة قمح والمستور كيلة درة والفقير الكحريتي كيلة شعير وكان مقسم قعدتنا في الكتّاب بتوع القمح دول أهل اليمين وبتوع الدرة دول بتوع وجعلناكم أمة وسطا دول يقعدوا في النص، وبتوع الشعير دول أهل الشمال والعياذ بالله يقعدوا على الشمال»
«وكانت فرقة القمح جلاب الطيب بالنسبة لسيدنا كل يوم يجيبوا له ما لذ وطاب من البيض والزبدة والعسل، وهو كمان كان عامل بالمثل الساير أطعم الفم تستحي العين، كان بيحترمهم بشكل دنيء، وفرقة الدرة كانوا بينضربوا أحيانًا، أما فرقة الشعير اللي كنت بتشرف بحمل لوائها فدي كانت الهدف الدائم والسهل لشومة سيدنا بجانب قاموس الشتائم».
ا"لفاجومي" كان على موعد آخر مع اليتم وبداية المشوار «بعد موت أبويا طعم الحياة مرر، والست "هانم" شالت الهم والأحلام الوردية اصفرت، وكان المفروض إن "محمد" اخويا يمشي في التعليم العام ويتخرج من الجامعة علشان يعوض فشل "عبد العزيز" في الدراسة، بينما كان طريق العبد لله حيبدأ من كتاب الشيخ أبو عطية وينتهي بعالمية الأزهر، ومات أبويا و"محمد" في سنة تانية ابتدائي في مدرسة أبو حماد، وأنا في الكتّاب وكان المنطقي إن "محمد يسيب" الدراسة أم مصاريف، وأستمر أنا لكن كان رأي أمي أن "محمد" ميقدرش على شغل الفلاحة والبهدلة.
في الحلقة القادمة.. سنوات الملجأ